(1)  

الان انا حر :

 

كنت دائماً أوثر الصمت في صبر من أجل عرشي وأتحمل اللوم المرير بحكم الاعتياد ، فعندما بلغت الثامنة عشرة من عمري كنت قد استوعبت درساً قاسياً أحاطني بهالة من التوجس والحذر ، فكل رجل من رجال البلاط من الممكن أن يصبح عدواً وكل مستند من الممكن أن يكون فخاً وأن أي معروف أصنعه أو هدية أقدمها قد يساء فهمها وربما استخدمت كسلاح ضدي ، فإذا احتفيت برجل فذلك يعني أنني سأمنحه سلطة ما!! وإذا ساورتني نفسي بالتحدث مع أحدهم حديثاً خاصاً فعلى الفور تنطلق التخمينات والشائعات التي قد تصل الى حد الادعاء بأنني أفشيت بعض أسرار الدولة ، وهكذا اعتدت أن وجهة نظر خصمي هي التي تصل الى أسماع الناس دائماً حتى كدت لا أصدق أنني أصبحت الآن حراً شأن بقية الناس ويمكنني التفكير بعمق والتحدث بسلاسة في محاولة لتحليل الذات ، وأذكر في لقائي الأخير مع إدوارد الثامن - ملك بريطانيا سابقاً - أنه كان منشغلاً بكتابة الفصل الأخير من مذكراته فقال لي عبارة ما زالت عالقة بذهني : "إذا شاءت الأقدار أن تكتب أنت أيضاً مذكراته في يوم من الأيام فسوف تفاجأ بأن الأحداث التي تود سردها كثيرة جداً لكن المشكلة الكبرى أن أفضل الأحداث وأكملها هي التي لا يمكن نشرها على الإطلاق!!" ، وهكذا وجدت نفسي مدفوعاً لنشر قصتي عن حقيقة ما حدث الآن فقط أخرج عن صمتي لأن الوقت المتاح لمعرفة الحقيقة ربما يكون قصيراً ، وعلى الرغم من تعرضى لبعض الضغوط من الدوائر المهيمنه لأيقاف النشر واسكاتى منذ نشر قصتى يوم الاحد الماضى ، حتى ان بعض الاصدقاء نصحونى بتشديد اجراءات الأمن لحماية طفلى ، لكننى لم ولن اذعن لأى ضغوط ، وقصتى الان كاملة بين ايدى الناشرين ، ومهما حدث سوف تروى !!! ، ان اعضاء الجناح السرى للأخوان المسلمين هم الذين يقفون الأن وراء نجيب ، فهم يستخدمون الاموال التى امدتهم بها السفاره الروسيه بالقاهرة ، فالأنقلاب الذى كلفنى عرشى لم يقم نجيب بتخطيطه على ضوء شمعه فى خيمته العسكرية ، وانما تم تخطيطه لحسابه بواسطة مجموعة من المستشارين العسكريين الاجانب ، فقد ارادت روسيا تنحيتى لأنهم يخططون لأن تكون مصر كوريا الثانية من خلال سيطرتهم الديكتاتورية ، اما نجيب فهو رجل يمسك النمر من ذيله ، ويتعين عليه ذلك ، لأنه لايجرؤ على تركه .

اننى مسجل فى الخارجية البريطانية كأول حاكم فى الشرق الاوسط يحذر من المد الشيوعى وخطورته ، لقد رجوت السفير البريطانى لامبسون لكى لايجبرنا على فتح سفارة روسية ، وفى عيونى دموع حقيقية ، لكنه كان ساخرا متغطرسا كعادته ، وقال لى : الا تعلم ان الروس حلفاؤنا فى الوقت الذى كان يطلق فيه الطابور الخامس على من يحاول منا النظر الى ابعد من قدميه ، وهكذا جاء الروس الى مصر بأبتساماتهم واموالهم السخيه ، وظهر كل يوم سبت كان فقراء المدينة يقفون امام السفاره فى طوابير طويلة ينتظرون نصيبهم من الاطعمه والشاى ، ولم يكن ذلك هو مايوزعونه فقط ، فكان يمكن لأى مجموعة من المتهورين والمتمردين بدءا من الاخوان المسلمين وانتهاء بدرية شفيق "بنت النيل" الحصول على منح نقديه من الروس الطيبين ، ولم يكن مسموحا لنا بالاعتراض فالروس حلفاؤنا !!! ، وقبل مجيئهم الى مصر لم يكن الاخوان المسلمين يشكلون خطرا ، كانوا متعصبين فقراء ، فتغير وضعهم بعد ان ملأ الكرملين جيوبهم بالاموال وهكذا انتقلوا من نواصى الشوارع الى ملكية الصحف ، ووضعوا جواسيسهم فى المواقع العليا ، واخيرا انتزعوا السلطه التى طالما تحرقوا شوقا من اجلها ، وبدأوا تسديد الدين للشيوعيين ، فقد علمت ان محمد نجيب قام بتعيين فتحى رضوان وزيرا لدعايته ومتحدثا رسميا بأسمه وهو سجين سابق وشيوعى معروف وانا اعلم انه حين يقرأ هذا الكلام سيرغى ويزيد وينكر وسيحاول اسكاتى بأله دعايته السخيفة ، والشيوعيين الان مشغولون بتنفيذ المرحلة الثانية من خطتهم .

فهم يطالبون بالاطاحة بالعرش من خلال جريدتهم ، لم اكن لأسمح بأصدارها ، وقد انضمت اليهم مجلة بنت النيل ، والجريده الرسمية للاخوان ، وهكذا يندمج الجميع فى لحن واحد يصف العائله المالكة التى يمتد عمرها الى اكثر من قرن من الزمان بأنها عصابة من القتلة اللصوص ، ولست انا فقط بل كل عائلتى واجدادى وربما ابنى .

اما الخطة التى اعطيت لنجيب فكانت بسيطة ومحكمة وتتمثل فى الاستعانة بمجموعة من الضباط لاتتعدى الاربعين ضابطا من رتبة ملازم الى صاغ ، كان نجيب اكبرهم رتبة ، على ان يقتحموا مقر الجيش واحدا وراء الاخر ثم الاستيلاء على التليفونات وارسال تعليمات عاجلة لكل ضباط الاركان وقادة القوات بالحضور فورا ، وهكذا اسرع الضباط بالحضور وهم لايعلمون شيئا ، وتم القاء القبض عليهم وكانت ساعة الصفر للانقلاب قد تقررت فى الثانية صباحا ، وقد ضحى اثنان من الضباط المخلصين بحياتهما لكى يخبرانى بموعدها ، فوصلا قصر المنتزة الساعة الحادية عشرة مساء ، ولم يكن امامى الا ثلاث ساعات لكى اتأهب انا وزوجتى وابنائى ، وعلى الفور اتصلت برئيس الاركان لأحذره ، فأنتقل الى القيادة العامة واتصل بى تليفونيا وعلمت منه ان مكتبه تم اقتحامه ، ثم سمعت طلقات رصاص وانقطع الخط التليفونى ، فى الوقت الذى ارسلت فيه البحريه احدى سفنها لترسو امام قصر المنتزة بغرض حمايتنا وسرعان ماهلت اسراب الطائرات بأزيزها فتصدت السفن الحربية لها ، فغيرت الطائرات اتجاهها بعيدا عن القصر ، اما السفن الاخرى فحاصرتها المدافع ، فأدركت ان قصر المنتزه اصبح هدفا للطائرات ويتحتم مغادرته على الفور ، اضافة الى قناعتى بأنه اذا كان قدرى ان اموت بالرصاص فأنا افضل ان يكون ذلك فى الاسكندرية ، فلم اكن اريد اية شائعات بعد موتى بأننى انتحرت .

تليفون سرى :

وهكذا قطعنا المسافة بين المنتزة وقصر رأس التين بأقصى سرعة هروبا من الدبابات والعربات المصفحة ، كنت اريد ان يعبر ابنى هذه الشوارع حيا ، وليحدث مايحدث بعد ذلك ، فجلست وتوليت قيادة العربة بنفسى والى جانبى طيارى الخاص حسن عاكف مسلحا بمدفع رشاش ، وفى الخلف جلست ناريمان وابنى والمربية الانجليزية "ان تشير سايد" ونجحت فى تفادى دورية صادفتنا وانحرفت بالسيارة سريعا ووصلنا قصر رأس التين وبدأ رجالنا المخلصون يتوافدون للدفاع عن القصر بعد نجاحهم فى الافلات من دورية حظر التجوال ، وبحلول الرابعة صباحا اكتملت الفرقة العسكرية السودانية حتى وصل عددها الى 800 رجل ، فقاموا بتأمين نوافذ الطابق السفلى فى القصر ، ووضعوا المدافع الرشاشة على طول الممرات فى الوقت الذى وصلت فيه بناتى الثلاث بعدى بوقت قصير وقد اصابهن الدهشة والخوف ، وحاولنا بصعوبة اقناعهن بالخلود الى النوم ، وطلبت ناريمان ان تنال ايضا قسطا من النوم ، وقبل الفجر مباشرة رقدت الى جوارها ثم استيقظنا بعد ساعتين حيث كانت مئات القوات تقترب الينا من نقاط السكة الحديد ، فخرجت الى الشرفة لأستطلع الامر وتبعتنى زوجتى حافية القدمين يغالبها النعاس ، اما بناتى الثلاث فقد بدأت الاثارة على وجوههن التى الصقوها بزجاج النافذة ، وترقبنا جميعا الموقف فلم تظهر القوات المتقدمة نحو القصر اى علامات تشير الى نيتها فى مهاجمتنا ، فقد كان قائدهم يشير الينا لطمأنتنا ، فقال احد حراسى : لعلها تعزيزات القادمة الينا من القاهرة ، وكنت امل ذلك ايضا ، فمن الصعب جدا انذاك استيعات فكرة استيلاء حفنة من المتمردين على الجيش بأكمله ، وكان من الصعب على ايضا اعطاء اوامر بأطلاق النار على رجال يرتدون نفس الزى الرسمى الذى ارتديه ، وهكذا وقفت فى الشرفة مترددا ، وبهذا التردد ارتكبت خطأ كاد يكون قاتلا لأننى سمحت للمتمردين بالدخول الى الدائرة الخارجية لدفاعتنا والتقدم لمسافة مائة وخمسين مترا ، وفجأة ودون تحذير اطلق من الخلف ضابطان النار من مدفع رشاش صغير ، ومن المعلوم عسكريا ان الانسان لايستطيع رؤية وميض المدفع الرشاش الا اذا كانت فوهته موجهة اليه مباشرة ، فرأيت هذا الوميض المباغت ، فأمسكت ناريمان من شعرها وجذبتها على الارض حتى شعرت ان احجار المبنى تكاد تهوى فوقنا ، وفجأة اطلق احد حراسى صيحة الم اثر اصابته بطلقة ادمته واعجزته ، وما ان رأيت هذا المشهد حتى اصابنى الرعب والهلع على بناتى ، فأنبطحت انا وناريمان ارضا ثم زحفنا الى الخلف وقد بدت ناريمان شاحبة الوجه شعثاء الشعر من اثر التراب المتساقط فوقها من الحائط المتهالك ، وحمدت الله ان بناتى مازلن احياء ينطلقن كالارانب البرية ، لكنهن لم يبكين او يبدين اى علامة من علامات الخوف الا بعد انتهاء المعركة واكتشافهن ان كلابهن وفرس فريال العربى قد قتلوا بواسطة رجال نجيب بلا ادنى مشاعر انسانية ، فكان لابد من تبادل النيران ، وقد اظهرت فرقتى السودانية مهارة فائقة لم اشاهدها فى حياتى ، وحانت الفرصة واصبحت فى وضع يتيح لى تصويب مسدسى نحو رجال نجيب ، فأنا حاصل على الشهادة الدولية لأساتذة الرماية ولكن نفسى لم تطاوعنى بقتله ، ولكنى اصبت رجلا فى ساقه ، واحد حاملى المدافع الرشاشة فى كتفه لكنها كانت عملية مقززة لم اسعد بها ، وسرعان ماتطورت الامور فحاصرتنا قواتهم وقطعت خطوط التليفونات فى سنترال الاسكندرية ولم يعرفوا مثل البريطانيين عندما حاصروا قصرى عام 1942 اننى احتفظ دائما بخطى تليفون سريين لمثل هذه الطوارىء ، وعلى الفور بدأت بالاتصال بعلى ماهر رئيس الوزراء واخبرته بما حدث فأصابته الدهشة والقلق حيث فوجئ بتطور الاحداث ، وخاصة ان رجال نجيب لم يخبروه بنواياهم فى الهجوم على القصر ، وطلبت منه ان يفعل اى شىء ايجابى ، واسرعت بالاتصال من جانبى بسفير الولايات المتحده "كافرى" وشرحت له الاحداث بصورة موجزة وطلبت منه تكريس كل جهوده ونفوذه لأنقاذ حياتى وحياة عائلتى ، فطمأننى بقوله : انه سيقيم الدنيا ويقعدها فى سبيل تحقيق طلبى لكنه اضاف : قد يأخذ الامر بعض الوقت فعليك ان تكافح بنفسك حتى لايباغتك الوقت .

 

 (2)

 

فى تلك اللحظات العصيبة راودتنى ايضا فكرة الاتصال بالانجليز لكننى احجمت على الرغم من وعود ويليام سلم بأمكانية الاعتماد على معاونته فى حالة وقوع مشكلات ومخاطر شخصية اضافة على ان قواتهم كانت قريبة بصورة تمكنها من التدخل الفورى ، الا اننى اقلعت عن فكرة الاستعانة بالانجليز نهائيا ، ولم اجد لدى اى رغبة فى انقاذ حياتى على اسنة القوات الاجنبية على مرأى من شعبى ، فأذا كان التدخل الدبلوماسى هو الحل الوحيد امامى فأن امريكا هى التى يجب الاعتماد عليها ، وهكذا تلبدت الاجواء تماما ، واثناء عبورى ممرات القصر وقعت عيناى على الجرحى وهم يعانون من شدة الاعياء والالم ، ولن انسى ماحييت موقف هؤلاء الرجال وهم يضحون من اجلى ومن اجل عائلتى وهم يعلمون تماما انهم يخوضون معركة محسومة وقضية خاسرة ، فلم يكن يراودهم الا شعورهم النبيل فلا امل فى وسام او ترقية ، وكان الامر شاقا ربما كان موتى هو الاهون ، والمؤلم ان الحديث عن تضحياتهم تحول الى اكاذيب على يد رجال السياسة كما يحدث دائما .

واخيرا قرر النجومى باشا الخروج والتفاوض معهم ، فوقع الرجل فى قبضتهم وقرروا استئناف القتال ، فقام ملازم من حرسى برفع منديل ابيض فساد هدوء مؤقت قطعه وصول على ماهر شاحب الوجه مضطربا وقد اصابه المنظر العام فى القصر بالدهشة ، وكان رجلا مخلصا ولم يكن يمثل طابورا خامسا اثناء الحرب كما ادعى البريطانيون ، ولكنه كان معاديا للشيوعية مثلى ، فى غضون ذلك ارسلت البحرية اشارة بهدف السماح لها بالاشتراك مع القوات الموجودة بالميناء فرفضت الطلب لقناعتى انها عملية انتحارية لاجدوى منها .

وأخيراً وصل سكرتير السفير الأميركي واخترق الحصار ليؤكد دعم بلاده ومؤازرتها من خلال تعليمات السفير ، له بالبقاء معي ، وبنفس الاهتمام والرغبة الفعلية في المشاركة أوفد ملحقه البحري الى محمد نجيب للحصول على تأكيدات فورية للحكومة الأميركية تضمن سلامتي وسلامة عائلتي ، ومن المؤكد أن أميركا أنقذت حياتنا في ذلك اليوم العصيب ، ولم ينته الإعصار بعد فقد ذهب علي ماهر للتحدث مع المتمردين فعاد حزيناً ويداه ترتعشان ولكني لم أندهش ، فقد كنت أحس بداخلي بالأنباء التي يحملها فقال لي : إنهم يصرون على التنازل عن العرش لابنك بحلول الساعة الثانية عشرة ظهراً ، وأن تغادر مصر بحلول السادسة مساء فنظرت الى عقارب ساعتي وكانت تشير الى العاشرة وأربعين دقيقة ، ولكني لم أشعر أنني في حاجة الى دقيقة واحدة لأفكر في الأمر فشكرته وقلت له : إنني مستعد لتوقيع التنازل فوراً إذا توافر شرطان أولهما أن تكون أوراق التنازل رسمية ودستورية وألا تحتوي على أي إساءة والشرط الثاني : أن يسمح المتمردون لقواتي الخاصة بوداعي وأداء التحية العسكرية ، كنت منفعلاً بالحدث المباغت ، لكنني أصررت على هذين الشرطين حتى لا تكون قصتي مريرة حين يقرأها ابني ، فقصص الملوك لا تكتب في المذكرات فقط ولكنها تسجل في كتب التاريخ الموثقة بالأحداث الفعلية ، وانصرف علي ماهر وتركني مع زوجتي وبناتي فشرحت لهن أنني بحلول المساء سأكون في المنفى ، وطلبت من كل واحدة منهن أن تذهب وتفكر في هدوء وشرحت لهن أن الأمر لن يكون سهلاً فإذا سافرن معي فربما لا يعدن الى مصر أبدا ، وقلت لزوجتي فكري جيداً يجب ألا ترافقينني شفقة أو عطفاً لأن الشفقة لا تدوم ومن الأفضل أن نفترق الآن حتى لا يكره أحدنا الآخر فيما بعد ، فأنت لا تزالين صغيرة يمكنك بدء حياة جديدة بدوني ، كما أنك قد لا تشاهدين والدتك مرة أخرى ! ، فأمسكت إبهامي بيدها الصغيرة وهي حيلة كانت تلجأ إليها لبعث الطمأنينة في نفسي ، وقالت هل لدينا وقت كاف لأعداد نفسى للسفر فأنا متربه واحتاج بعض الوقت للاستحمام ، ولم تفكر فى الامر او تتطلع لمزيد من النقاش والاستفسار ، فشعرت بالرضا والفخر وسأظل اذكر موقفها طيلة حياتى فعندما اخترتها عروسا لى كنت ملكا ، ولكن عندما حانت لحظة اختيارها قررت ان تذهب معى الى المنفى وانا مجرد من كل شىء ، وبالمثل قررت بناتى السفر معى دون تردد ، فقالت فوزية سأذهب معك ياابى وظلت تحدق فى عينى حتى اومأت بالموافقة وابتسمت لها ابتسامة الشكر ، وهى اكثر رقة وارهف مشاعر او اكثر هدوءا من فريال لكنهما مخلصتان بنفس القدر وربما يمكننى استنتاج قرار فريال وفوزية لكنى لم اكن واثقا بنفس القدر من فادية الصغيرة "ثمان سنوات" فقد كانت تقيم مع والدتها حتى سن السابعة ، وكان من الممكن لسبع سنوات ان تؤثر بالسلب على عام ونصف فقط هى المدة التى قضتها معى ، ولكنها قالت لى ايضا اريد ان اتى معك ، وتساءلت هل ستذهب معنا مربيتها "ان تشير سايد" ؟ ى مربية ابنى فؤاد ايضا ، فأجبت بالايجاب ، عدت كثيرا لقرارهن النهائى فهن مرتبطات كل منهن تشكل جزءا حيا دافئا من حياة شقيقتها فكنت اتمنى الا يتفرقن دون مبرر ، فأبناء الملوك ينضجون سريعا ومن ثم يصبحون لعبة فى ايدى الاخرين ، فحرصت ان تكون سنواتهن الاولى هانئه هادئه تحمل احلى الذكريات .

ممتلكاتنا كانت فى القاهرة :

وبدأت الاستعدادات الرسمية للرحيل ، وفي قرابة الواحدة بعد الظهر جاءني سليمان حافظ حزيناً متأثراً معه أوراق التنازل عن العرش وبتهدج شديد قال لي : فلتلمس عذري يا مولاي وليسامحني الله كنت أتمنى أن أطلق النار على نفسي ولا أحضر هذه الأوراق إليك .. انه سليمان حافظ ذلك التمساح الذى توسل الى ان اخبره بأى طلبات او اذا كان بمقدوره ان يفعل شيئا من اجلى فى ذلك الوقت الحرج كالاتصال بأحد الاصدقاء فشكرته وطلبت منه رجاء اخر يتعلق بتأمين الحكومة الجديده لوضع ابنى ، ووقعت التنازل واعتدته اليه ودموعه الحاره تغالبه ، وفيما بعد علمت انه عين نائبا لرئيس الوزراء ، اما الهدف من تعاطفه ودموع التماسيح التى شاهدتها فكانت من اجل معرفة اسماء اصدقائى الذين قد يشكلون نواة لمقاومة المتمردين ، وانا اشيد بقدراته التمثيلية لكننى لااستطيع الثناء على اخلاقياته !! ، ربما كان هذا مرضيا جدا لمتمردى الجيش البسطاء وقد نجحوا فى تحقيق هدفهم لكن الامر لم يكن مرضيا للمتعصبين من الاخوان المسلمين ، وما اكثر الاقاويل التى ارتبطت باللحظات الاخيرة ، فقيل اننى رقيت نجيب فى محاولة لعقد صفقة لأنقاذ حياتى وعرشى ، ولكن الحقيقة ان نجيب تمت ترقيته بشكل رسمى قبل الانقلاب بثلاثة ايام حين احضر على ماهر خطابا من اربع صفحات كتبه نجيب بنفسه متضمنا عشرة مطالب اولها تعزيز موقف على ماهر رئيس الوزراء ، وكان يسعدنى ذلك لأنه رجل فاضل ، وثانيها ترقية نجيب الى رتبة فريق ، فلم امانع حيث انه قد تولى قيادة الجيش فعلا ، اما المطالب الثمانية الاخرى فكانت تتعلق بمرتبات وترقيات كبار المتأمرين وتنحية بعض المسئولين فى قصرى ، وكان منهم الصالح والطالح وفى نهاية الامر وافقت على المطالب كلها ، ولكن بعد مغادرتى مصر اعلن نجيب انه لم يقبل الرتبة التى عرضتها عليه ، والحقيقه انه طلب الترقية وقبل ان تطلق رصاصة واحده وخطابه المكتوب بخط يده فى اربع صفحات يمكن اظهاره اذا كان الامر ضروريا .

لم يكن أمامنا سوى ساعات قليلة لكي نجمع ممتلكاتنا ، وقد ابتسمت في مرارة وسخرية للأحاديث التي انطلقت لتعترض من وحي الخيال وما أخذناه من متعلقات وأمتعة ولكنني أؤكد أننا لو استطعنا أن نأخذ أكثر مما أخذناه لفعلنا ، ولكن الحقيقة المرّة هي أن كل ممتلكاتنا الشخصية تقريباً كانت في القاهرة ، فلم نأخذ معنا إلا احتياجاتنا لقضاء فترة الصيف في قصر المنتزه وأثناء مغادرتنا العاجلة لقصر المنتزه هرباً الى قصر رأس التين لم نأخذ إلا حقيبة سفر لكل منا تحتوي على الضروريات وهكذا غادرنا مصر الى المنفى ومعنا أقل القليل فسافرت بصحبة 60 فرداً بمن فيهم أفراد حراستي وقدّرت أمتعتنا على ما أظن بـ 150 صندوقاً للثياب ، إضافة للحقائب واللفائف بمعدل ثلاثة صناديق لكل فرد ، فعلى سبيل المثال كان كل ما يخص ابنتي فادية طقمين من ملابسها وعلبة ألوان ، وأما متعلقاتي فكانت بدلتين وملابس غير رسمية وستة قمصان ،  بينما كان نصيب ناريمان سبعة أطقم من ملابسها وهكذا سافرنا الى المنفى وملابسنا تكفينا لشهر واحد! .

على ماهر لن يتحمل المزيد :

جاءت والدة ناريمان واختاي فوزية وفائزة وزوجاهما لوداعي بينما كانت أختي فائقة في هلسنكي مع زوجها الذي كان يمثل مصر في الألعاب الأولمبية ، وعلمت من على ماهر انه سيصل فى تمام الساعة الخامسة بصحبة السفير الامريكى ومحمد نجيب للوداع الاخير ، ولكننى لاحظت ان نجيب منذ تلك اللحظة يحاول جاهدا ان ينكر انه طلب وداعى بل انه يظهر الامر كما لو كنت انا الذى صممت على هذا الوداع كشرط من شروط توقيع تنازلى عن العرش ، واجد نفسى عاجزا عن الفهم ، فلماذا يخجل نجيب من امر يمكن ان يقبله العالم منه كسلوك راق ومصافحة الرجل الذى ازاحه عن عرشة !! ، وفى ذلك اليوم العصيب وفى تلك اللحظات الحرجة خاطبت السفير بقولى : امل الا اكون قد تسببت لك فى بعض المتاعب مع الحكومة الامريكية بسبب هذه الاحداث التى فرضت نفسها صباح اليوم ؟ ، فأجاب : صدقنى يامولاى ان حكومتى معنية جدا بسلامتك وتبارك كل خطواتى المتعلقة بهذا الامر !! فشعرت بالارتياح ووعدنى على ماهر الذى كان على وشك البقاء معى مرة ثانية قائلا : اعدك بأننى سأتحمل كل اساءة او اهانة الى اقصى درجه استطيع تحملها اذا كان ذلك من شأنه مصلحة النظام الملكى ، فشكرته وكنت اعلم انه يعنى مايقوله بصدق ، ولكننى طلبت منه ان يحاول جاهدا اقناع الدولة بالانفاق على ابنى ، فهو قانونا ملك مصر ، فوعدنى بأن يفعل لكننى كنت ادرك ان الرجل فى وضع حرج لايسمح له بالوفاء بأى وعد وربما ابعد عن السلطه الان لانه لم يستطع ان يتحمل المزيد .

حائط مبكى من الخدم :

وقبل الموعد المحدد للمغادرة ارتديت بدلة البحرية الرسمية تعبيراً عن احترامي وتقديري لبحريتي المخلصة ثم استدعيت ضباط قصري المخلصين وطلبت منهم مصاحبة وصيفات الملكة بأسلحة نارية ترقباً لأي مضايقة أو إهانة للسيدات ، ومن العجيب ان الجنود اعتبروا المخاطرة بما تبقى لهم من حياتهم العسكرية عن طريق تأدية هذا الواجب شرفا لهم ، فقد كانوا يعلمون تماما ان هذا العمل لن يقربهم من رؤسائهم الجدد فى الجيش ، وذهبت زوجتي وأطفالي الى المحروسة في الخامسة وخمس وأربعين دقيقة ، ثم توجهت الى رصيف الميناء حيث اصطف حرس القصر وحراسي السودانيون في وضع انتباه فتفقدت آخر قول شرف وقمت بتحية العلم ووقفت انتباه عند عزف النشيد الوطني ، وطبقا لنص كلمات نجيب فقد صنع الخدم المخلصون حائط مبكى يصم الاذان وشرق هذا الحائط اطلقت المدفعية احدى وعشرين طلقة ، وكان المشهد مؤثرا للغاية ، فقد قضيت عشر دقائق احاول فيها مواساة الخدم المخلصين ، فهونت الامر عليهم بكلمات المواساه والامل فى اللقاء الاتى ، ومازال هذا الامل يراودنى بالفعل حتى الان ، وقد نشرت صحيفة "الديلي تلغراف" في صفحاتها الأولى صوراً لبحارة المحروسة وهم يبكون وأنا أخطو على المعدية الصغيرة ، ولكن الصحيفة منعت وقام رقباء نجيب بطمس الصور باللون الأسود .

وفي تمام السادسة قمت بتحية علي ماهر والسفير الأميركي كافري وطبعت على خدهما قبلة الوداع ، وطلبت من علي ماهر انتظار نجيب خمس دقائق أخرى وإخباره بأنني انصرفت طبقاً لتعليماته وأثناء إبعاد المرساة ظهر لنش مسرع بداخله رجل صغير الحجم هو محمد نجيب ومعه ستة ضباط آخرون فوقفت بالقرب من الممر لاستقبالهم ، فتقدم نجيب وصافحني فقلت له : آسف لأنني لم أنتظرك فطبقاً لأوامرك كان لا بد أن أغادر البلاد الساعة السادسة فاحمر وجهه واضطرب قائلاً : أنا لست مسؤولاً عن الذي حدث! كنا نأمل خيراً بهذا الانقلاب ، لكن الأمر خرج من أيدينا وتطورت تداعيات الموقف لأبعد مما كنا نتصور! .

وهكذا دخل نجيب صفحات التاريخ بعد ان اصبح بين عشية وضحاها هو الشخصية الرئيسية فى مصر ، ولايمكننى الان الحكم على كلماته الرتجفة المتسرعة ، ولكننى انشرها لأجلاء الحقيقة ، فهو رجل دفعه الاخرون بشدة والان اصبحت اخشى على حياته .  

 (3)

أبحر جدي الخديو اسماعيل الى نابولي عام 1879 منفياً أيضاً ومنحته الحكومة الإيطالية قصراً وبعض المخصصات الملكية . وعندما قدم فيكتور عمانويل ملك ايطاليا الى مصر منفيا ، وضعت تحت تصرفه قصر انطونيادس ، فنابولى هى مدينة الملوك المخلوعين ، اضافة الى اننى قررت السفر بالمحروسة ، وهى نفس السفينة التى اقلت جدى ، وهكذا استبعدت فكرة السفر بالطائرة ، فمن السهل اسقاطها او تفجيرها ، ويقينى ان فكرة سفرنا احياء لن تتوافق مع الاراء المتطرفة ، وكنت اعلم انهم سيلومون نجيب بشدة لضعفة وتخاذله ، ولن يمضى وقت طويل وسيعيدون كل حساباتهم بشأننا ، وصدق حدسى .

في الليلة الأولى راودتني فكرة إظلام المحروسة تماماً ، ولكنني أدركت أنني أخدع نفسي وأثير القلق والخوف بلا داع ، فأي رادار يمكنه التقاطنا من أبعد المسافات فاستبعدت هواجسي ، فإذا كانوا ينوون بالفعل مهاجمة المحروسة بالطائرات فلماذا انتظروا عتمة الليل إضافة الى أن اصطياد السفن ومهاجمتها بالطوربيد هي الطريقة المألوفة لتدمير السفن ، وفي النهاية قررت التشاور مع قائد السفينة وقررنا تغيير خط السير المعتاد الى نابولي ويا لها من ليلة موحشة ، والغريب وكما يحدث دائما فقد نمت جيدا فى تلك الليلة ، لكن اعود فأذكر شيئا هاما ، فقبل صعودنا الى السفينة بخمس ساعات تسللت سفينة مدفعية رمادية لديها تعليمات محددة بنسف المحروسة والادعاء بأننى اصبت بالجنون ، فقمت بتفجير المحروسة ، حتى فى لحظة اغتيالى سأكون الملام ايضا

وفيما بعد علمت ان الكثيرين تساءلوا بأندهاش لما استغرقت المحروسة ثلاثة ايام فى عرض البحر لكى تقطع المسافة القصيرة بين الاسكندرية ونابولى خاصة انها سفينة سريعة ، ولعلهم يحظون الان بالاجابة الشافية فنحن لم نضيع وقتنا فى اللهو او مداعبة حوريات البحر ، ولكننا قضينا الشطر الاكبر من الليلة الاولى فى الابحار بأقصى سرعة فى اتجاه خاطىء ، وقد علمت ان احد افراد الطاقم قد عبث بالرادار متعمدا حفاظا على حياتنا ، ولكننى لا املك يقينا يؤكد صحة هذه الرواية وان كنت اعلم جيدا مدى ولاء البحرية واخلاصها لى ، لذا فأنا اقول ان رحمة الله الواسعة بالاطفال الصغار هى التى انقذتنا جميعا .

تولى علوبة بك قيادة المحروسة بعد أن أمره نجيب بمرافقتي الى أول ميناء إيطالي والعودة مرة أخرى بالمحروسة التي لم تكن ملكي في يوم من الأيام ، فقد تم بناؤها في عهد جدي اسماعيل ، وتملكها الحكومة المصرية وصدرت الأوامر المشددة لعلوبة بأن زوجته وعائلته بأكملها سيتم احتجازهم كرهائن في وضع غير مريح لحين عودته! .

وجبة واحدة لاتكفى :

والتزم جميع العاملين بالمحروسة بالتعليمات السالفة التي تحتم عودتهم ، وفي عرض البحر اكتشفت وجود كمية كبيرة من صناديق الخمور ، فاستفسرت عن سبب وجودها وعلمت أن أحمد علي وهو رجل تخطى السبعين كان مسؤولاً عن الخمور منذ عهد والدي قام بتفريغ مخزن الخمور في قصر الإسكندرية تماماً ووضعها على ظهر السفينة وقال إنه يفضل أن يموت ولا يلمس أحد شيئاً من هذه الصناديق ، فكانت هذه الواقعة تحديداً هي البؤرة التي تشعبت منها أسطورة الصناديق الكثيرة المملوءة بسبائك الذهب التي سافرت بها على متن المحروسة ، هنا أريد توضيح شيء مهم للقارئ الأوروبي فطبقاً لقواعد البروتوكول فنحن نقدم الخمور لضيوفنا في مآدبنا الرسمية وحفلات الاستقبال التي ندعو فيها الديبلوماسيين الأجانب، ولكن المصريين بصفة عامة لا يشربون الخمور لأسباب دينية ، ولكن ذلك لا يعني تقصيرنا في واجبات الضيافة ، ففي كل الصور الفوتوغرافية الخاصة بالمآدب الرسمية تظهر كؤوس الخمر في أماكن ضيوفنا الأجانب وفي أماكننا نحرص على وضع كأسين إحداهما للماء والأخرى لعصير الفاكهة ، وفيما بعد ترامت أطراف قصة هذه الخمور حتى قيل أن الأوامر صدرت بإنزالها ، والحقيقة أننا لم ننزل أي شيء وعندما وصلنا الى إيطاليا بعت الخمور كلها لأنها كانت ملكاً لنا.. أما المفاجأة الكبرى فهي اكتشافنا عدم وجود الطعام الكافي باستثناء الخبز والجبن وكان يكفي وجبة واحدة لكل منا في اليوم فسألت بناتي متى يمكننا تناول هذه الوجبة؟ .

واتفقن على تناولها في العشاء لكي نظل نتطلع إليها طوال اليوم ، وعلقت ناريمان قائلة : ربما كان ذلك أفضل لنا وعزاؤنا أن الصحف لن تتحدث مثلاً عن حفلات السكر التي أقمناها وآثار علب الكافيار والشامبانيا التي تركناها فرددت: لا يزال أمامك الكثير لتتعلميه ، فهم سيقولون ذلك بدون شك بطريقة أو بأخرى ، وهو ما حدث بالفعل ، بل إن البعض أضاف أننا قمنا بتجويع طاقم البحارة البؤساء بينما أتخمنا أنفسنا ، فمن تطارده الصحافة لا يكسب أبدا ً، فإذا لعب الكوتشينة فهو مقامر وإذا ربح فهو غشاش وإذا خسر فهو أحمق وإذا رفض اللعب فهو كئيب عابس ، ولم يكن أمامنا بديل للخروج من هذه الأزمة إلا الضحك فكنا نضحك على كل شيء في هذه الرحلة فشر البليّة ما يضحك ، كما ان الجو كان رائعا وصافيا فلا توجد رائحة طهى ، فليس لدينا شىء نطهيه ، وفى اليوم التالى وقفت منتعشا على سطح السفينة وتحدثت مع كبير المهندسين وهو رجل ايرلندى فقلت له : انه يوم جميل حقا ياهوران ، فرد بحماسة وصدق : نعم ياسيدى انه جو ملكى فليباركه الله !! ، ولاتزال هذه العبارة عالقة بذاكرتى التى انطبعت فيها ايضا صورة احد افراد الحراسة وهو يلاعب ابنتى الصغيرة فادية ويمازحها لأدخال السرور الى قلبها الصغير ، انهم نوع غريب من البشر يتصفون بصفات تفوق اى اوسمة او مديح ، خاصة اننى اصبحت لا املك من ارى شيئا ولا املك حيالهم الا العرفان والتقدير والامتنان .

ووصلنا الى نابولى فوجدنا الترحاب والمأوى والاصدقاء ووضعت الحكومة تحت تصرفنا حرسا خاصا ، وبعد فترة وجيزة انهينا اجرءاتنا الجمركية ومنحتنا جمارك نابولى شهادة بأمتعتنا وخلوها مما يستوجب دفع ضريبة جمركية ، ثم قمنا بتوديع اصدقائنا العادئدين مرة اخرى على المحروسة ، وبمجرد خروجنا فوجئنا بحصارنا حصارا محكما من قبل 300 صحفى من مختلف دول العالم ينتظرون على رصيف الميناء ، فوضعوا حاجزا لمنعهم من الصعود الى المحروسة وطلبت احضار اللنش الصغير الذى املكه فى كابرى ، فأستقر بجوار المحروسة ، وهكذا تمكنا من انزال متعلقاتنا على مرأى من فضول الصحافة العالمية التى راقبت كل تحركاتنا فى فضول شديد مزودين بالعدسات التلسكوبية التى تم تثبيتها فوق اسطح المنازل وابراج الكنائس وكل المنطقة المحيطه بالفندق الذى اقمنا به ، حتى ان سائقى سيارات الاجرة اصابهم النعاس وهم جاثمون امام عجلات القيادة ، واكتظت قاعات الفندق وممراته بعشرات المصورين الذين جاءوا بكاميراتهم وامتعتهم ، ولاحظت ان كاميراتهم موجهة نحو نوافذنا ، فحذرت بناتى من فتح نوافذهن او الخروج للشرفات وهن يرتدين ملابس النوم ، اما انا فقد تكفل كل المصورين بمراقبتى وتتبعى ، فرأيت انه من الافضل ان ابعث لهم برسالة اخبرهم فيها اننى سأتحدث اليهم جميعا فى اليوم التالى وسأقف مع عائلتى امام عدساتهم ، فأدهشنى رد فعلهم الايجابى والتزامهم الكامل ، فأغلقوا كاميراتهم ، وحين تيقنت من التزامهم خرجت الى قاعة الاستقبال وان لا اصدق ماحدث ، ثم خرجت الى الشارع ، وكانت مغامرة غير محسوبة ، والعجيب انهم لم يحنثوا بوعدهم ، ولم يضايقنى اى منهم بالفعل ، كنت اتمنى ان يتصف كل الصحفيين بأمانة ورقى هؤلاء المصورين .

وفى اليوم التالى اعددت بيانا موجزا فذكرت اننى ضيف على الحكومة الايطالية وتحت رعايتى ملك مصر الصغير ، وكنت حريصا على كل كلمة حتى لااسبب متاعب لاضرورة لها لفؤاد الصغير ، وتجنبا لعدم احراج من استقبلونى ضيفا عليهم ، وصرحت بأشياء اخرى كنت اعلم انهم قطعوا البحار والمحيطات لسماعها واقناعى بالتحدث اليهم ، وقد تلقيت عشرات البرقيات منهم والمحروسة لاتزال فى عرض البحر ، وتحدثت بثلاث لغات لكن صحيفة او صحيفتين على  الاكثر هما اللتان نشرتا كلماتى القليلة دون تحريف ، ويبدو اننى عندما وصلت الى النقطة الرئيسية فى التصريح فقدوا اهتمامهم بما اقول وقرروا كتابة قصصهم المفضلة ، وظلوا على دأبهم فى عرض الرشاوى المغرية على العاملين فى الفندق لكى يمنحوهم اجابات شافية عن اسئلتهم الهامه من وجهة نظرهم ، ماذا نأكل ؟ ماذا نشرب ؟ عدد قمصانى ؟ ولون قميص نوم ناريمان ؟

 لم اخن عهودى مع فريدة :

من المؤلم حقا ان كل ايماءة او فعل يأتى به الملك تتم مراقبته بدقة فائقة حتى اننى عندما اطلقت لحيتى انطلقت الشائعات والتخمينات ، فقال البعض ان فاروق اطلق لحيته طمعا فى خلافة المسلمين ، ولم يكن ذلك صحيحا فقد نصحنى ابى بألا تكون الخلافة رافدا من روافد طموحاتى ، وتكهن البعض الاخر بأننى احاول اخفاء اثار لكمة زوج غيور ، ولو كان الامر كذلك لتركت اللكمة اثارها لمدة طويلة ، وللاسف الشديد لم استطع ان اشرح فى ذلك الوقت لأى مخلوق لماذا اطلقت لحيتى ، والان اعترف للمرة الاولى اننى كنت قد اقسمت وعاهدت نفسى واتخذت قرارا نهائيا بطلاق الملكة فريدة طلاقا بائنا لارجعة فيه ، وفى كل يوم تنمو فيه لحيتى كنت ادعو الله ان يكون قرارى صائبا .

كنت اشعر دائما ان تفاصيل طلاقى من فريده من امورنا الخاصة التى يجب ان تكون فى طى الكتمان ، لذلك رفضت التحدث الى صحفى بريطانى حاول التطفل واقتحام حياتنا وتحويلها لعناوين رئيسية مرة اخرى ، فصدته فريدة فبحث جاهدا عن والدها يوسف ذو الفقار ، ويبدو انه كان حريصا على التودد للنظام الجديد الامر الذى دعاه الى للتحدث الى الصحافة عن تفاصيل طلاقى مرة اخرى .

الان سأتحدث عن تلك الفتاه التى احببتها وسميتها فريدة ، سأروى حقيقة القصة التى لم اروها مطلقا ، ولعل القارىء يستشف منها ان اخطائنا لم تكن متعمدة ولكنها اقدارنا بل اننى انتهز هذه الفرصة لأبعث اليها بهذه الرسالة " فليغفر الله لنا " كانت فريدة ابنة لأحدى وصيفات امى ، اسمها الحقيقى صافيناز ، ولكننى اطلقت عليها فريدة ، ولايزال العالم يعرفها حتى الان بأسم الحب الذى اطلقته عليها ، ففى السادسة عشرة من عمرى سافرنا مع اسرتينا الى سويسرا ، فتعارفنا وتقاربنا فى ذلك الجو الرومانسى الرائع فى جبال الالب ، ومات ابى وانتهت فترة شبابى مبكرا واصبحت ملكا على مصر ، حين بلغت الثامنة عشرة تزوجنا فوصفتنا الصحافة العالمية بأننا اجمل ملك وملكة شاهدهما العالم منذ مائه عام ، ربط الحب بين قلبينا ، وبالرغم من انه كان حب الشباب الاخضر الغض الذى لم تنضجه السنين بعد ، لكنى كنت اعتقد ان ذلك لن يمنعنا من فرصة التمتع بحياة هانئه ، الا ان ضجيج العمل اليومى بمشكلاته وواجباته الرسميه كان لهما ابلغ الاثر فى حياتنا ، فزوجتى كانت شابة صغيرة السن تهيأ لها السفر ومشاهدة اسلوب الحياة الغربية لكنها كانت ممنوعة من الخروج والظهور فى الاماكن العامة بحكم تقاليدنا بأستثناء المناسبات الرسمية ، وهكذا بدأت تشعر بالملل والوحدة .

وببداية اشتعال الحرب العالمية الثانية وعبور جيش روميل ودباباته لصحرائنا بدأت انشغل تماما ، فأنصرفت هى الاخرى عنى ، ولكنى واثق اننى لو اشرت لها بيدى انذاك لجاءتنى بلا تردد ، ولكن للاسف الشديد لم تكن يدى خالية ابدا من قلم او ختم ، وجميع المهام الرسمية فمصر دولة يصعب حمكمها فمين بين كل عشرة افراد يوجد تسعة لايعرفون القراءه او الكتابة ، ويمكن لأى مهيج اثارتهم اضافة الى اننى كنت اعود من عملى مرهقا متشبعا بالمجاملات والمناورات مع رجال لايقل عمر اى منهم عن ثلاثة اضعاف عمرى ، وهكذا توترت العلاقة بيننا وبدأت المشاجرات المريرة بيننا ، فكنت انطلق ثائرا مندفعا متعمدا ايلامها من خلال الانشغال بأهتمامات اخرى اجد فيها عزائى وراحتى ، لكنى لم اخن عهودى معها ، فشريعتنا الاسلامية تحرم التمتع بالمحظيات ، فكان من الممكن ان ننفصل انذاك ، فقد طلق ابى زوجته ومعظم الجميلات كن يتمنين الزواج منى ولكننى اعترف اننى تنقلت بينهن فلم اجد فريدة اخرى ، كان حبى لها عميقا وبدأت السنين تنال من شبابى لكنها ظلت جميلة ، فحاولت اسعادها بالهدايا الثمينة ولكنها كانت تملك مايكفيها فقررت اهداءها بيتا جميلا فالذى لايعلمه الكثيرون ان القصور الملكية ملك للحكومة المصرية وعلى الرغم من فخامتها لكنها لاتصلح بيوتا للسكن المريح ، فأخترت لها قصرا قريبا من منطقة القبة فى قلب ريف القاهرة ( قصر الطاهرة ) واعتقدت انها هدية ستسعدها فقالت لى : لست خادمة لكى العب لعبة ست البيت !! ، فلن يدر القصر دخلا ، فغيرت الهدية واشتريت لها مزرعة تحقق عائدا يقترب من 200 الف جنية استرلينى سنويا ، فشكرتنى واستعدت رضاها لفترة قصيرة ثم تدهورت الامور فأزدرت حبى لها واخبرتنى صراحة اننى اذا تقدمت فأنها ستستقبلنى كمتطفل وغريب يحاول الاعتداء عليها لازوجها ، فلم يكن امامى الا البحث عن العزاء والسلوى فى اماكن اخرى ، لقد قيل عنى ومااكثر ماقيل عنى اننى طلقت لانها لم تنجب ولدا ، وذلك امر لم يرد فى شريعتنا الاسلامية ، ولكن من الجائز تطليق الزوجة اذا كانت رائحة فمها او قدمها كريهة مثلا ، فأذا وافق القاضى يتم تطليق الزوجة وانا اتطرق لتلك التفاصيل لكى اوضح للقارىء الاوروبى ان شريعتنا تحدد اسبابا خاصة جدا للطلاق ليس من بينها الفشل فى انجاب ولد ، واعتقد ان فريدة او اختارت الحياة معى كانت ستنجب حتما ولدا او اكثر ففى غضون عشر سنوات من الممكن ان تنجب اكثر من ثلاثة اطفال ولكن قضى الامر وهكذا قررت الطلاق رسميا بعد انفصال دام خمس سنوات ، وكان طلاقا بائنا فقد كنت احبها حبا بشدة ولو جاءت بعد طلاقنا وقد ادركت خطأها واقرت بحبى لكنت قد اعدتها على الفور الى عصمتى مرة اخرى فلم اكن املك من القوة مايجعلنى اصمد امام ذلك الاغراء العاطفى ، لذا قررت ان يكون طلاقا بائنا ، وكان شرطى الوحيد يتعلق بمصير مزرعتها فيجب ان تؤول المزرعة وايرادها لصندوق الاوقاف الامر الذى يعنى انها ستنحى جانبا جزءا من الايرادات لكى تتسلمه بناتنا ، ولكن فريدة قررت الانتفاع بنصيب بناتها فى بناء فيلا فاخرة ، وبما ان بناتنا لن يستخدمنه فيمكنها بيعه والاستحواذ على اموال من المفترض انها اموال بناتها ، ولااعتقد ان فريدة يمكنها التفكير بهذه الطريقة التكتيكية فهى تفكر كأمرأة ولدى يقين ان والدها هو صاحب هذا الاقتراح .

ولا اعتقد ايضا ان فريدة هى التى نشرت ذلك الخطاب الذى كتبتة فريال لها قبل رحيلنا من قصر رأس التين ، فعقب تعرضنا لنيران المدافع الرشاشة ومقتل فرسها الابيض وحيواناتها المدللة انفعلت وبكت وكتبت لوالدتها : اللهم لاتضعنى فى مثل هذه التجربة القاسية مرة اخرى فما اصعب ان نقول وداعا لمن نحبهم وللاشياء المحيطه بنا ، وفى الحال استغلت الصحافة الخطاب ونشرته كأنه مرسل من كابرى وكأنها تعانى من تجربتها معى فى المنفى ، وهكذا تلقت فريال درسا قاسيا علمها ان جدها يوسف الذى احبته وكان يتمنى ان يجد نظرات الرضا فى عينيها تغير كثيرا والى الابد ، وادركت ان خطاب فتاة صغيرة لأمها من الممكن استخدامه كسلاح للاثارة والحقد والكراهية ضد ابيها الذى تحبه ايضا ، والان عندما تكتب بناتى خطابات والدتهن وانا حريص على ان يفعلن ذلك ، فهن يأخذن حذرهم ويزن كل كلمة حتى لاتستخدم ضدنا .

اه لو عادت عقارب الساعة الى الوراء ، لكننى الان وجدت سعادتى وادعو الله من كل قلبى ان تجد فريدة سعادتها ايضا .  

الصفحة السابقة

الصفحة التالية

 

Copyright 2008 © www.faroukmisr.net