المصريون يشعرون بالذنب حيال اخر ملوكهم

حمدى رزق 

حين قامت ثورة 23 تموز؟ يوليو 1952، رفعت، من ضمن ما رفعت من الشعارات، ذلك الشعار الذي يقول "أنظر وراءك.. بغضب"! كان المقصود، النظر الى حقبة ما قبل تموز ـ يوليو 1952 في سياق الغضب لا التأمل. فجلالة "الملك المفدى فاروق الأول ملك مصر والسودان"، صار "الملك السابق" و"المخلوع" و"الفاجر"، وعهده صار "العهد البائد" و"زمن الطغيان" و"عصر الإقطاع".. المنحازون لثورة تموز والمعادون لها، والوسطيون فيما بين الفريقين كذلك، أجمعوا على أن أحد الأخطاء الفادحة للثورة، أن صناعها شاؤوا أن يلغوا التاريخ، وأن تبدأ الحياة بهم وتنتهى إليهم، فما قبلهم شر خالص، وما بعدهم ليس سوى خلاصة ما يبذلون في حاضرهم !

وبعد أن ذهبت "النشوة الثورية" بهزيمة حزيران ـ يونيو 1967، وحلت العقلانية و"الدولة" محل "الثورة"، لم يتغير في منطق "الماضي الملعون" شيء. ففي عهد السادات ظل الملك وعصره ملعونين. استمسك السادات بذلك، خصوصاً وهو الذي عنى خلال 11 عاماً (مدة حكمه) بأن يثبت أن دوره في الثورة كان ضخماً جداً بل سابقاً على دور قائدها جمال عبد الناصر، فكيف يهادن فاروق؟

غير ان محاولات متكررة لمناقشة "فترة الملك فاروق" نقاشاً موضوعيا، وصلت في بعض الأحيان الى الانحياز له، عرفت طريقها الى الساحة الفنية والفكرية ومجالس المثقفين ومقالاتهم وكتبهم في السنوات العشر الاخيرة. ولعل مسلسل "الملك فاروق" الذي تبثه فضائية mbc حصرياً الآن هو إحدى الحلقات البارزة في سياق "رد الاعتبار لملك مصر الأخير". ولعل محاولات أخرى، درامية وغير درامية، آتية للهدف ذاته !

مسلسل الملك فاروق ـ الذي تعاون التليفزيون المصري مع mbc وعدد من المنتجين في إنتاجه (اختير له المخرج السورى المعروف حاتم علي والممثل السورى تيم الحسن، الذي اضطلع بدور ملك مصر). وبعيداً عن جدل واسع صاحب تصوير المسلسل (استغرق 4 شهور من ايار ـ مايو الى أواخر آب ـ أغسطس بكلفة تجاوزت المليونين من الدولارات..) حول ضرورة اختيار ممثل مصرى للدور، وهو الجدل الذي انتهى الآن تماماً، ليحل محله شيء من التعاطف الواضح مع فاروق نفسه لدى أوساط متباينة..!

فمن اللحظة الأولى، خلق المسلسل تعاطفاً مع هذا الطفل "فاروق"، الذي نشأ في حجر والد عجوز مستبد متشدد قاس هو الملك فؤاد الأول (الذي حكم البلاد بالحديد والنار قبل فاروق من 1917 الى 1936). الطفل محكوم ـ كالشعب ـ بالحديد والنار أيضاً، يتربّى على يد مربيتين إحداهما إنكليزية والأخرى يهودية من عائلة قطاوي اليهودية العريقة في مصر في ذلك الوقت. أنه يتكلم العربية الفصحى والعامية المصرية مثل أبناء المصريين، لا التركية التى يتكلم بها أبوه، وتلك حقيقة تاريخية، حتى أن فاروق كان أول ـ وآخر ـ ملك على مصر يخطب بالعربية الفصحى بطلاقة ويتكلم العامية كأحد الناس"، وهو سجين التقاليد الملكية الصارمة في التربية، ينام في غرفة وحده، وممنوع من اللعب مع أخواته الصغيرات، ممنوع من مقابلة والدته إلا بميعاد حتى أن والده جلده "بالكرباج" وهو ابن 4 سنوات لأنه أصر على الجلوس مع والدته في غير موعد الجلوس.

كل ذلك يبثه المسلسل ـ لاول مرة ـ للمصريين، الذين لم يقرأ سوادهم الأعظم شيئاً عن نشأة فاروق. ولأن كل هذه الأحداث حقيقية وموثقة، فإن هؤلاء المشاهدين إنتابهم التعاطف المتزايد، إن لم يكن الشعور بالذنب، تجاه هذا الملك الذي تصوروه على مدار 55 عاماً، على أنه الشيطان الرجيم.. شخصياً!

 

الميديا المرئية :

وتمضي الأحداث في سياق درامي يضغط على مساحة "فاروق الإنسان المظلوم" وليس فاروق الملك المسؤول عن فساد البلاد وعن هزيمتها في حرب 1948 وفقدانها لدستورها واستمرار احتلالها، وما يكسب هذه الحلقة أهميتها، من سلسلة "رد اعتبار فاروق"، كونها تركز على الجانب الإنسانى، وأنها جاءت عبر أكثر الوسائل تأثيراً في هذا العصر: الميديا المرئية التي بات تأثيرها يفوق ـ كثيراً ـ تأثير الكتب، تلك التي حوى بعضها في السنوات العشر الأخيرة تعاطفاً واضحاً مع فاروق، لكن تأثيره كان محدوداً.. !

كاتبة هذا المسلسل هي لميس جابر زوجة الفنان المصري الكبير يحيى الفخراني وهي مؤلفة موهوبة ومشهود لكتاباتها ـ نقدياً وجماهيرياً ـ وجدت نفسها متهمة بالانحياز لفاروق، على خلفية هذا المسلسل.

غير أن لميس جابر تقول: ولماذا أنحازُ لفاروق؟ لست من عائلة محمد على باشا. فاروق هو ابن فؤاد وحفيد إسماعيل باشا، أي أنه حفيد حفيد محمد علي باشا"، والدي كان موظفاً بسيطاً وأنا ولدت في شبرا (حي شعبى كبير مكتظ بالسكان شمالى القاهرة)، فليس لي من غرض سوى تصحيح تاريخ مغلوط، وعلى من يتصدى للأحداث التى أوردتها بالمسلسل أن يثبت كلامه بالوثائق. أنا اجتهدت في جمع الوثائق والمعلومات من مصادر متنوعة وتأكدت مرات عدة من صحة ما كتبته!

وتقول لميس إنها شرعت في كتابة هذا المسلسل مطلع التسعينيات، "واكتشفت أن 90 بالمئة مما قيل عن فاروق ليس صحيحاً. وأمضيت 5 سنوات أجمع المادة العلمية للمسلسل، بدأت في العام 1996 كتابته، وانتهيت من كتابته في 1999، ولم يتحمس التليفزيون لإنتاجه. وفي العام 2001 كانت ثمة محاولة لإنتاجه من قبيل فضائية "دريم" المصرية الخاصة، لكن القناة لم تستطع تحمل الميزانية الضخمة للإنتاج الى أن اتفقت معى فضائية mbc على إنتاجه في العام 2006. وطوال 16 عاماً، بدءاً من مرحلة جمع المعلومات وصولاً لمرحلة تسليمه الى mbc، راجعت الحلقات تاريخياً وقرأتها مرات كثيرة وصححتها أكثر من مرة مراعاة للدقة التاريخية، وجمعت معلومات من "صلاح الشاهد" ـ سكرتير فاروق ـ وفؤاد سراج الدين رئيس حزب الوفد الراحل وأكرم النقيب نجل الملكة ناريمان "من زوجها الثاني الذي تزوجته بعد طلاقها من فاروق" فضلاً عن المراجع والكتب وقصاصات الصحف القديمة.

وتختتم جابر: "كل ما قصدت إليه هو تصحيح التاريخ، ولو وجدت فرصة أو سبباً حقيقيا لرفع الظلم عن أية شخصية تاريخية، إن كانت مظلومة بالفعل، فسوف أكرّر التجربة، فمن حق الناس أن يعرفوا تاريخهم على الوجه الصحيح!".

 

فاروق وما يكتبون :

شهدت السنوات العشر الماضية محاولات حثيثة في السياق ذاته الذي سعى إليه ودار فيه مسلسل "الملك فاروق" الذي اقتحم الشاشة الرمضانية! بل لعل المسلسل جاء انعكاساً لهذه المحاولات التى كتبها مؤرخون، وشهود عاديون، وصحافيون، وهواة أيضاً "بدليل أن لميس جابر حاولت التقاء عادل ثابت، الذي أصدر في العام 1996 كتاب "الملك فاروق الذي غدر به الجميع"، وثابت ليس مؤرخاً ولكنه كان مقرب من العائلة المالكة المبعثرة الآن بين مصر وأوروبا. غير أن ثابت امتنع عن لقائها.. وتحفظ، على حد قولها.

وهذا الكتاب ـ على سبيل المثال ـ وزع نحو 20 ألف نسخة حين صدوره ضمن سلسلة "كتاب اليوم ـ دار أخبار اليوم" وطبع لمرات عدة، ولم يكن هذا الإقبال مفهوما، وهو سياق جذاب للمثقفين والعامة على السواء، والطريف أن ثابتاً هذا أصدر في العام التالي، وعن نفس دار النشر، كتاباً ضد جمال عبد الناصر، لكنه لم يوزع سوى بضع مئات من النسخ، ولم يكن هذا مفهوماً أيضاً !

وجاءت محاولات مؤرخ محترف، رحل اخيرا، هو عبد العظيم رمضان الذي حظي باحترام كل الفئات كمؤرخ مدقق، وحظي بنقمتهم في مواقفه السياسية.. وتلك مسألة أخرى، لرد اعتبار "فاروق"، موازية لاهتمامه المعتاد بتشويه كل تفاصيل العصر الناصري، وكذلك تمجيد كل ما قام به السادات، وكأن مشروع رمضان، الذي كان متخصصاً بالتاريخ المعاصر كأستاذ جامعي، قام على ثلاثة أركان: تحسين صورة فاروق، تمجيد السادات، تشويه عبد الناصر، وبدا المشروع متجانساً في تفاصيله الى حد بعيد! ومضى رمضان في مقالاته بصحيفة "الجمهورية" المصرية وفي كتبه وفي ندواته وفي حواراته الى آخر الشوط في إنصاف فاروق، وإظهاره في ثياب المظلوم !

وقبل عشر سنوات وعلى صفحات "الأهرام" دعا الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي الى إنصاف فاروق والسادات تاريخياً، بكشف إيجابيات حكم كل منهما بالقدر الذي عنى المؤرخون بكشف سلبياتهما به. وبعدها بعامين جاء مسلسل "رد قلبي" ـ والذي راجعه تاريخياً رؤوف عباس المؤرخ المرموق ـ ليعطي فاروق مبررات كثيرة لأخطائه الفادحة، وليصور عزله وخروجه من البلاد "26 تموز ـ يوليو 1952" تصويراً يجعل أشد القلوب قسوة تتعاطف معه (قام بالدور الممثل المصري وائل نور)، وإن كان المسلسل برمته والمأخوذ عن رواية يوسف السباعى بمثابة "قصيدة" طويلة في مدح الثورة والثوار وسبّ الإقطاع والباشوات وأمراء العائلة المالكة المخلوعة ! ولم يكن غريباً أن تتوالى في هذا السياق بعد ذلك، عشرات المقالات التى تنادي بإعادة فتح ملفات ما قبل 1952 و"إنصاف فاروق" و"موضوعية قراءة التاريخ"!

وعلى أرض الواقع شهدت الفترة ذاتها من 1997 وإلى اليوم إحياء "نادى محمد علي باشا". النادي مغلق على أعضاء الأسرة المالكة، ومن يمنحهم هؤلاء الأعضاء العضوية الشرفية... أو بمعنى أصح "شرف الجلوس للعائلة المالكة"، ويقع على نيل الجيزة "في مقابل القاهرة غرباً". كما أن باحثاً مصرياً هو ماجد فرج كتب كثيراً في سياق إنصاف فاروق وعائلة محمد علي، وصار بمثابة المتحدث الرسمى باسمها، وإن كان بعضهم عاد ينكر صلته بفرج هذا. لكن كل هذه التفاصيل، مضافاً إليها صور مؤثرة لأحمد فؤاد الثاني نجل فاروق الوحيد والذي كان ولى عهد عرشه ـ في فرنسا وسويسرا مع شقيقاته وخالاته في "الغربة" ـ صنعت حالة من المهادنة الواضحة لفترة فاروق لدى قطاع كبير من المصريين، وتوجت هذه الحالة بمسلسل تيم الحسن وحاتم علي، الذي ربما يكون أكثر تفاصيل هذه الحالة تأثيراً من الناحية الوجدانية على الناس..

 

ملف مفتوح :

لعل من فوجئوا بمسلسل فاروق، ومن هزتهم قبله مقالات رمضان وحجازى وفرج وثابت وغيرهم، والتي سطروها باسم "رد اعتبار الملك السابق"، كانوا في أغلبهم من هؤلاء الذين لا يقرأون التاريخ. وفي مصر، أولى دول العالم تدويناً للتاريخ، لا يحب معظم الناس القراءة عن الماضي.. يتركون هذه المهمة لمثقفين أو يتسلون بالتاريخ عبر المسلسلات الرمضانية، إن وجدت! وقطاع آخر ممن فاجأهم هذا التوجه، هم من نخبة النظام نفسه، الذين لم يتعودوا ذلك الخطاب، وكثير منهم بدأ احتراف السياسة في العصر الناصري، وبعضهم يتحدث الآن عن "آليات السوق" و"العولمة" وينظر لهما، فإن جاء ذكر التاريخ تجده يتكلم بلسان ناصرى مبين..!

أما سواد المثقفين المصريين، فإن ملف فاروق مفتوح لديهم، لم يغلق للحظة واحدة.. لأن التاريخ لديهم لا يتوقف أمام أشخاص. لعل كتابي أحمد بهاء الدين ومحمد عودة عن " فاروق وسقوط الملكية" و"فاروق.. بداية ونهاية" ـ على الترتيب ـ دليل على أن شعار "أنظر وراءك بغضب" لم يكن شعاراً ملزماً للمثقفين، سوى من رأى منهم أن هذا الشعار يخدم هدفه للالتحاق بالنظام في عهد عبد الناصر.

مثلا شهدي عطية الشافعي رئيس الحزب الشيوعي المصري والذي قتل تعذيباً في معتقل "الواحات" بصحراء مصر الغربية 1959، لم يكن بالغ القسوة في كتاباته ضد فاروق ـ كشخص ـ وإنما كعصر وآليات وسياسات. والمفاجأة التى ربما لا يعرفها الكثيرون هي أن الشيوعيين المصريين ـ والذين يفترض فيهم أنهم ألد خصوم الملكية والإقطاع ـ صدموا بقيام ثورة 23 تموز ـ يوليو 1952، وكانوا يتمنون بقاء فاروق، لأنهم كانوا يخططون لإطاحته في العام 1955 ـ كما كتب شهدي الشافعي في يومياته ـ ورأوا أن 1952 جاءت لتصادر على "احتمالات الثورة الشعبية ضد فاروق ونظامه".

والشيوعيون يستوي عندهم فاروق وعبد الناصر في الاستبداد، ويرون فيهما ـ كما يرون في السادات ـ خصوصاً للاشتراكية الماركسية، ويرفضونهم جميعاً! من هنا، لا يجد كثير من المثقفين المصريين ـ عدا الناصريين ـ غضاضة في النقاش حول حقيقة فترة فاروق، بخاصة أن الدعوة لإعادة كتابة التاريخ شعار مرفوع في الحركة الثقافية المصرية طوال الوقت، وإن كانت ثمة معادلات ـ أو لنقل مسلمات محفوظة ـ يتوارثها المصريون مثقفين وعامة.

ربما تحول دون فتح ملف فاروق بصورة موضوعية، أهمها أن من ينصف فاروق يظلم عبد الناصر بالضرورة، ومن يعشق عبد الناصر يكره فاروق بالضرورة. إنها مسلمات موروثة من بداية عصر 23 تموز ـ يوليو 1952، الذي صنع كتابه ومؤرخوه فجوة ـ مقصودة ـ بين العصرين، بات من الصعب تجسيرها بصورة عقلانية.. مختلفة عن الصورة التى يقدمها مسلسل "فاروق" الحالي، لأن المسلسل، برغم اجتهاد مؤلفته لميس جابر في تدقيقه، شابت موضوعيته لمسة عاطفية، تجعل هذه الموضوعية لا محل لها من الإعراب، بخاصة عند المصريين الذين تنتابهم مشاعر التعاطف مع "عزيز قوم ذل"، فما بالنا لو كان هذا العزيز ملكاً ابن حفيد خديو؟ لابد أن الرحمة به ستكون فوق حدود التصور.. وفوق حدود العقلانية والموضوعية التى يتحدث عنها صناع المسلسل!

* نقلا عن صحيفة المستقبل اللبنانية

 

 

 

الصفحة السابقة

 

Copyright 2008 © www.faroukmisr.net