• لقد تعرضت مصر على مر تاريخها لحملتين صليبيتين في عهد الدولة الأيوبية ، وكانت الحملتان تقودهما فرنسا ، أما الأولى فقد عرفت بالحملة الصليبية الخامسة ، وكانت بقيادة ( جان دي برس ) ، وأما الأخرى فقد عرفت بالحملة الصليبية السابعة ، وكانت بقيادة ( الملك لويس التاسع ) ومنيت الحملتان بهزيمة مدوية عامي 618 هـ - 1221م و 648 هـ - 1250م وخرجتا من مصر .

  • إلا أن احتلال مصر كانت رغبة قوية لدى فرنسا ، وبقيت أملا لسياستها وقادتها ينتظرون الفرصة السانحة لتحقيقها متى سنحت لهم ، وفي سبيل ذلك يبعثون رجالهم إلى مصر على هيئة تجار أو سياح أو طلاب ودارسين ، ويسجلون دقائق حياتها في تقارير يرسلونها إلى قادتهم .

  • ولما بدأ الضعف يتسرب إلى الدولة العثمانية أخذت فرنسا تتطلع إلى المشرق العربي مرة أخرى ، وكانت تقارير رجالهم تحرضهم بأن اللحظة المناسبة قد حان أوانها ولابد من انتهازها.

  • وكشفت تقارير سانت بريست سفير فرنسا في الأستانة منذ سنة 1768م والبارون دي توت والمسيو (مور) قنصل فرنسا في الإسكندرية ضعف الدولة العثمانية ، وأنها في سبيلها إلى الانحلال ، ودعت تلك التقارير إلى ضرورة الإسراع باحتلال مصر، غير أن الحكومة الفرنسية ترددت ولم تأخذ بنصائحهم ، احتفاظا بسياستها القائم ظاهرها على الود والصداقة للدولة العثمانية .

 

مقدمة :

 

  • قبل قيام الحملة الفرنسية على مصر ، قدم ( شارل مجالون ) القنصل الفرنسي في مصر ، تقريره إلى حكومته في 9 فبراير 1798م ، يحرضها على ضرورة احتلال مصر ، ويبين أهمية استيلاء بلاده على منتجات مصر وتجارتها ، ويعدد لها المزايا التي ينتظر أن تجنيها فرنسا من وراء ذلك .

تاليران - مهندس الحملة الفرنسية

  • وبعد أيام قليلة من تقديم تقرير مجالون ، تلقت حكومة فرنسا تقريرا آخر من - تاليران - وزير الخارجية ، ويحتل هذا التقرير مكانة كبيرة في تاريخ الحملة الفرنسية على مصر ، حيث تعرض فيه للعلاقات التي قامت من قديم الزمن بين فرنسا ومصر وبسط الآراء التي تنادي بمزايا الاستيلاء على مصر .

  • وقدم الحجج التي تبين أن الفرصة قد أصبحت سانحة لإرسال حملة على مصر وفتحها ، كما تناول وسائل تنفيذ مشروع الغزو من حيث إعداد الرجال وتجهيز السفن اللازمة لحملهم وخطة الغزو العسكرية ، ودعا إلى مراعاة تقاليد أهل مصر وعاداتهم وشعائرهم الدينية ، وإلى استمالة المصريين وكسب مودتهم بتبجيل علمائهم وشيوخهم واحترام أهل الرأي منهم ، لأن هؤلاء العلماء أصحاب مكانة كبيرة عند المصريين .

قرار الحملة :

  • وكان من أثر التقريرين أن نال موضوع غزو مصر اهتمام حكومة الإدارة التي قامت بعد الثورة الفرنسية ، وخرج من مرحلة النظر والتفكير إلى حيز العمل والتنفيذ ، وأصدرت قرارها التاريخي بوضع جيش الشرق تحت قيادة نابليون بونابرت في 12 أبريل 1798م .

  • وتضمن القرار مقدمة وست مواد ، اشتملت المقدمة على الأسباب التي دعت حكومة الإدارة إلى إرسال حملتها على مصر ، وفي مقدمتها عقاب المماليك الذين أساءوا معاملة الفرنسيين واعتدوا على أموالهم وأرواحهم ، والبحث عن طريق تجاري آخر بعد استيلاء الإنجليز على طريق رأس الرجاء الصالح وتضييقهم على السفن الفرنسية في الإبحار فيه ، وشمل القرار تكليف نابليون بطرد الإنجليز من ممتلكاتهم في الشرق ، وفي الجهات التي يستطيع الوصول إليها ، وبالقضاء على مراكزهم التجارية في البحر الاحمر والعمل على شق قناة برزخ السويس .

تجهيز الحملة :

  • جرت الاستعدادات لتجهيز الحملة على خير وجه ، وكان قائد الحملة الجنرال نابليون يشرف على التجهيز بكل عزم ونشاط ويتخير بنفسه القادة والضباط والعلماء والمهندسين والجغرافيين ، وعني بتشكيل لجنة من العلماء عرفت باسم لجنة العلوم والفنون وجمع كل حروف الطباعة العربية الموجودة في باريس لكي يزود الحملة بمطبعة خاصة بها .

  • لقد تمت التعمية على الجهة التي يقصدها الأسطول حتى إن الرجال كلهم - تقريبا - والبالغ عددهم 000 45 لم يكونوا يعلمون وجهة الأسطول ، وفي بيان له سمات خاصة وجهه نابليون " لجيش الشرق " الجديد أشار إليه بأنه مجرد جناح للجيش الفرنسي المعد لغزو إنجلترا ، وطلب من البحارة والجنود أن يثقوا به رغم أنه لا يستطيع حتى الآن أن يحدد المهام الموكلة إليهم ، وأبحرت الحملة من ميناء طولون في 19 مايو 1798م وتألفت من نحو 35 ألف جندي ، تحملهم 300 سفينة ويحرسها أسطول حربي فرنسي مؤلف من 55 سفينة ، وفي طريقها إلى الإسكندرية استولت الحملة على جزيرة مالطة من فرسان القديس يوحنا آخر فلول الصليبيين .  

 

الاستيلاء على مالطة :

  • وفي 9 يونيو ظهر الأسطول الفرنسي إزاء سواحل مالطا ، وكانت حكومة الإدارة قد قدمت رشوة لرئيس جماعة فرسان مالطا وذوي الشأن فيهم لتكون مقاومتهم شكليو ، ونتيجة لهذا استولى الفرنسيون على الحصن المنيع الممول جيدا في هذه الجزيرة بسهولة ولم يفقدوا في سبيله سوى ثلاثة رجال ، وتأخر نابليون في الجزيرة أسبوعا ليعيد تنظيم إدارة الجزيرة على نمط الإدارة الفرنسية وكان ( ألفريد ده ڤينه Alfred de Vigne - ) الذي سيصبح شاعرا فيما بعد - يومئذ في الثانية من عمره ، وقد قدموه لنابليون ، فرفعه وقبله ، وقال ( ألفريد ) فيما بعد عندما أنزلني بعناية إلى سطح السفينة كان قد كسب إلى جانبه ، عبداً آخر يضاف إلى عبيده ، وقد عانى نابليون طوال فترة الإبحار إلى الإسكندرية تقريبا ، وفي هذه الأثناء درس القرآن .  

معركة  ابى قير البحرية :

 

معركة ابو قير البحرية

 

وقعت معركة ابو قير البحرية في 2 أغسطس 1798 بين القوات البحرية الإنجليزية بقيادة نلسون والأسطول الفرنسي بقيادة نابليون بونابرت على شواطئ خليج أبو قير المصري ، وإنتهت بهزيمة الفرنسيين ، وقد اعتبرت نتائجها ثورة في التكتيك البحري ، والفرنسيين أضاعوا الوقت فضاعت فرصة النصر .

فور عودة الجنرال الشاب نابليون بونابرت من ايطاليا  في الأسابيع الأولى من العام 1798 بعد إحرازه انتصارات عسكرية باهرة ، باشر درس أوضاع القوى العسكرية الفرنسية المكلفة غزو الجزر البريطانية ، وتحضيرها لهذه الحملة ، ولكن سرعان ما أدرك صعوبة بل استحالة تنفيذ المهمة لأسباب عديدة أهمها :

ضعف القوات البحرية الفرنسية مقارنة مع البحرية الانجليزية التي باتت تؤمن السيطرة البحرية (SEA CONTROL) وتشكل سداً منيعاً أمام أي قوة تحاول غزو بريطانيا ، وأضف إلى ذلك الضعف الحاصل في التجهيزات اللازمة للقوة الفرنسية لتنفيذ الغزو ، وعدم توافر الأموال الكافية ، والبرد القارس والأمراض المتفشية بين العناصر والتي تشكل عقبة كبيرة في تحقيق الهدف المنشود .

وبناء عليه تقدم الجنرال بونابرت في 28 شباط من العام نفسه من مجلس قيادة  الثورة الفرنسية لعرض هذا الوضع والصعوبات التي تعترضه وتحول دون تمكينه من تنفيذ المهمة الموكلة إليه بغزو الجزر البريطانية ، وقرر طرح خطة عمل بديلة لاحتلال مصر ، وهكذا تحوّل هدف غزو الجزر البريطانية إلى تحضير لغزو مصر .

 

الاسطول الانجليزى يراقب الحملة :

  • وعلى الرغم من السرية التامة التي أحاطت بتحركات الحملة الفرنسية وبوجهتها فإن أخبارها تسربت إلى بريطانيا العدو اللدود لفرنسا ، وبدأ الأسطول البريطاني يراقب الملاحة في البحر المتوسط ، واستطاع ( نيلسون ) قائد الأسطول الوصول إلى ميناء الإسكندرية قبل وصول الحملة الفرنسية بثلاثة أيام ، وأرسل بعثة صغيرة للتفاهم مع السيد ( محمد كريم ) حاكم المدينة وإخباره أنهم حضروا للتفتيش عن الفرنسيين الذين خرجوا بحملة كبيرة وقد يهاجمون الإسكندرية التي لن تتمكن من دفعها ومقاومتها ، لكن السيد ( محمد كريم ) ظن أن الأمر خدعة من جانب الإنجليز لاحتلال المدينة تحت دعوى مساعدة المصريين لصد الفرنسيين ، وأغلظ القول للبعثة فعرضت أن يقف الأسطول البريطاني في عرض البحر لملاقاة الحملة الفرنسية ، وأنه ربما يحتاج للتموين بالماء والزاد في مقابل دفع الثمن ، لكن السلطات رفضت هذا الطلب لتترك الاسطول الإنجليزي للمواجهة مع الحملة في معركة أبي قير البحرية والتي انتهت بتدمير قطع الاسطول الفرنسي لتترك الحملة في مصر بلا اتصال بفرنسا .

  • وتَوقُّعت بريطانيا أن تكون وجهة الحملة الفرنسية إلى مصر العثمانية دليلٌ على عزمها على اقتسام مناطق النفوذ في العالم العربي وتسابقهما في اختيار أهم المناطق تأثيرا فيه ، لتكون مركز ثقل السيادة والانطلاق منه إلى بقية المنطقة العربية ، ولم يكن هناك دولة أفضل من مصر لتحقيق هذا الغرض الاستعماري .  

وصول الحملة الفرنسية الى الاسكندرية

 

وصول الحملة للاسكندرية :

 

  • وصلت الحملة الفرنسية إلى الإسكندرية ونجحت في احتلال المدينة في 2 يوليو 1798م ، بعد مقاومة من جانب أهلها وحاكمها السيد ( محمد كريم ) دامت ساعات .

  • استولى نابليون على أغنى إقليم في الإمبراطورية العثمانية ، وطبقاً للبروباجندا الحربية أدعى أنه " صديقاً للسلطان العثماني " ، وأدعى أيضا أنه قدم إلى مصر " للاقتصاص من المماليك " لا غير ، باعتبارهم أعداء السلطان ، وأعداء الشعب المصري .

محمد كريم

 

وصول الحملة الفرنسية الى الاسكندرية

جزء من قصر رأس التين بالاسكندرية كان يستخدم كمحكمة للقيم اثناء الحملة الفرنسية على مصر

 

وهذه رسالة ( نابليون بونابرت ) الذى دعاه المؤرخين المسلمين ( الجنرال على ) الى شعب مصر :

 

"بسم الله الرحمن الرحيم ، لا اله الا الله وحده ولا شريك له في ملكه.. ايها المشايخ والأئمة ، قولوا لأمتكم ان الفرنساوية هم أيضاً مسلمون مخلصون وإثبات ذلك انهم قد نزلوا في روما الكبرى وخرّبوا فيها كرسي البابا الذي كان دائماً يحّث النصارى على محاربة الإسلام ، ثم قصدوا جزيرة مالطا وطردوا منها الكوالليرية الذين كانوا يزعمون ان الله تعالى يطلب منهم مقاتلة المسلمين ، ومع ذلك فإن الفرنساوية في كل وقت من الأوقات صاروا محبين مخلصين لحضرة السلطان العثماني ..أدام الله ملكه .. أدام الله إجلال السلطان العثماني .. أدام الله إجلال العسكر الفرنساوي لعن الله المماليك وأصلح حال الأمة المصرية " .

  • وأدرك نابليون قيمة الروابط التاريخية الدينية التي تجمع بين المصريين والعثمانيين تحت لواء الخلافة الإسلامية ، فحرص على ألا يبدو في صورة المعتدي على حقوق السلطان العثماني ، فعمل على إقناع المصريين بأن الفرنسيين هم أصدقاء السلطان العثماني ،  غير أن هذه السياسة المخادعة التي أراد نابليون أن يخدع بها المصريين ويكرس احتلاله للبلاد فلم ينخدعوا بها وقاوموا الاحتلال .

الطريق الى القاهرة :

  • وفي مساء يوم 3 يوليو 1798 م زحفت الحملة على القاهرة ، وسلكت طريقين أحدهما بري وسلكته الحملة الرئيسية ، حيث تسير من الإسكندرية إلى دمنهور فالرحمانية ، فشبراخيت ، فأم دينار على مسافة 15 ميلا من الجيزة ، وأما الطريق الآخر فبحري وتسلكه مراكب الأسطول الخفيفة في فرع رشيد لتقابل الحملة البرية قرب القاهرة .

  • ولم يكن طريق الحملة سهلا إلى القاهرة فقد لقي جندها ألوانا من المشقة والجهد ، وقابلت مقاومة من قبل أهالي البلاد ، فوقعت في 13 يوليو 1798م أول موقعة بحرية بين مراكب المماليك والفرنسيين عند شبراخيت ، وكان جموع الأهالي من الفلاحين يهاجمون الأسطول الفرنسي من الشاطئين ، غير أن الأسلحة الحديثة التي كان يمتلكها الأسطول الفرنسي حسمت المعركة لصالحه ، واضطر ( مراد بك ) قائد المماليك إلى التقهقر صوب القاهرة .

  • ثم التقى ( مراد بك ) بالفرنسيين عند منطقة إمبابة في 21 يوليو 1798م ، في معركة أطلق عليها الفرنسيون معركة الأهرام ، وهناك قال لجنوده  :

  • " إن أربعين قرنا تتطلع إليكم " ، ومرة أخرى واجه الفرنسيون هذا الهجوم بطلقات المدافع والبنادق والحراب المثبته ، فقتل سبعون فرنسيا وألفٌ وخمسمائة مملوك ، وغرق كثيرون منهم في النيل في أثناء هروبهم الطائش .

  • وفي 22 يوليو أرسلت السلطات التركية في القاهرة مفاتيح المدينة إلى نابليون مما يعني الاستسلام ، وفي 32 يوليو دخل نابليون المدينة البهية من غير أن يواجه مقاومة .

  • وكانت القوات المصرية كبيرة غير أنها لم تكن معدة إعدادا جيدا ، فلقيت هزيمة كبيرة وفر ( مراد بك ) ومن بقي معه من المماليك إلى الصعيد ، وكذلك فعل ( إبراهيم بك ) شيخ البلد ، وأصبحت القاهرة بدون حامية ، وسرت في الناس موجة من الرعب والهلع خوفًا من الفرنسيين .

نابليون فى القاهرة :

 

نابليون امام تمثال ابو الهول فى القاهرة

نابليون وجيشه امام الاهرامات

جنود الحملة الفرنسية تقف عند ابو الهول

  • دخل نابليون مدينة القاهرة تحوطه قواته من كل جانب ، وفي عزمه توطيد احتلاله للبلاد بإظهار الود للمصريين وبإقامة علاقة صداقة مع الدولة العثمانية ، وباحترام عقائد أهالي البلاد والمحافظة على تقاليدهم وعاداتهم ، وذلك حتى يتمكن من إنشاء القاعدة العسكرية ، وتحويل مصر إلى مستعمرة قوية يمكنه منها توجيه ضربات قوية إلى الإمبراطورية  لبريطانية .

  • وفي اليوم الثاني لدخوله القاهرة وهو الموافق 25 يوليو 1798م ، أنشأ ( نابليون ) ديوان القاهرة من تسعة من كبار المشايخ والعلماء لحكم مدينة القاهرة ، وتعيين رؤساء الموظفين ، غير أن هذا الديوان لم يتمتع بالسلطة النهائية في أي أمر من الأمور ، وإنما كانت سلطة استشارية ومقيدة بتعهد الأعضاء بعدم القيام بأي عمل يكون موجها ضد مصلحة الجيش الفرنسي ، ولم يكن الغرض من إنشاء هذا الديوان سوى تكريس الاحتلال الفرنسي والعمل تحت رقابة وأعين السلطات الفرنسية .

  • ومن القاهرة أصدر أوامره بأن تدار أمور مصر عن طريق دواوين عربية تابعة لسيطرته ، ومنع جنوده من السلب والنهب ، وحمى حقوق الملكية الموجودة لكنه استمر في تحصيل الضرائب التي فرضها المماليك الغزاة على أهل البلاد لتمويل جيشه ، وجلس مع الزعماء المحليين واعترف باحترامه للشعائر الإسلامية وإعجابه بالفن الإسلامي ، وشهد ألا إله إلا الله ،  وطلب مساعدة المسلمين له ليعم الرخاء والازدهار مصر .

  • كما عقد اجتماعا مع علماء الحملة لوضع الخطط للقضاء على الطاعون ، وإدخال صناعات جديدة ، وتطوير نظم التعليم المصري ، وتحسين القوانين المعمول بها ، وإنشاء خدمات بريدية ونظام مواصلات ، وإصلاح الترع وضبط الري ، وربط النيل بالبحر الأحمر .

  • وفي يوليو سنة 1799 نظم المعهد العلمي المصري من علماء مصر وعلماء الحملة ، وكان العلماء هم الذين أعدوا الأربعة والعشرين مجلداً الضخمة ، والتي مولتها ونشرتها الحكومة الفرنسية بعنوان ( وصف مصرى ) (9081-8281 Description de L`Egypte ) ، وأحد هؤلاء العلماء وهو ( بوشار Bouchard ) ، وجد في سنة 1799 في مدينة تبعد عن الإسكندرية ثلاثين ميلا حجر رشيد Rosetta عليه نقوش بلغتين وثلاثة خطوط ( الهيروغليفية والديموطيقية واليونانية ) ، وقد مكنت هذه الكتابات ( توما يونج Thomas Young (1814) وجان - فرنسوا شامبليون Jean - Francois Champolion (1821) ) من وضع أسس منهج ترجمة النصوص الهيروغليفية ، ففتحوا بذلك أمام ( أوروبا الحديثة ) أبواب حضارة مصر القديمة المركبة والناضجة بشكل يدعو إلى الدهشة ، وكان هذا من اهم نتائج الحملة الفرنسية على مصر .

  • عندما ترك نابليون أسطوله في الإسكندرية متجها إلى القاهرة كان قد أمر (على وفق رواية نابليون ) نائب الأدميرال ( فرنسوا-بول بروى ) ، Francois-Paul Brueys  ، أن يفرغ كل حمولته من المواد اللازمة للجنود ، ومن ثم يبحر بأقصى سرعة ممكنة إلى ( كورفير  Corfu)  التي كان الفرنسيون قد استولوا عليها ، كما أمره بضرورة اتخاذ الإجراءات كلها لتجنب تدخل البريطانيين ، لكن سوء الأحوال الجوية أخر إبحار ( بروي Brueys ) ، وفي أثناء فترة التأخير هذه رسا بأسطوله في خليج ( أبي قير ) القريب ، وهناك في 13 يوليو سنة 1798 ، رآه ( نيلسون ) ، وهاجمه بسرعة .

  • وبدت القوتان البحريتان المتواجهتان متكافئتين ، فالقوات البحرية الإنجليزية قوامها 41 سفينة حربية وسفينة بصاريين ، والقوات البحرية الفرنسية قوامها 31 سفينة حربية وأربع فرقاطات ، لكن البحارة الفرنسيين كان الحنين إلى العودة إلى بلادهم قد ازداد ، ولم يكونوا متدربين بما فيه الكفاية ، أما البحارة البريطانيون فقد كان البحر هو وطنهم الثاني ألفهم وألفوه ، والآن فإن تنظيمهم ( البريطانيين ) ، الأكثر تفوقا وبراعتهم البحرية وشجاعتهم سادت طوال النهار والليل لأن المعركة الدامية استمرت حتى فجر الأول من أغسطس .

  • ففي الساعة العاشرة من يوم 13 يوليو انفجرت سفينة القيادة ( التي بها بروى ) التي بها 120 بندقية ، وقتل كل من كان على متنها تقريبا بمن فيهم اللواء بحري نفسه ، وكان يبلغ من العمر خمسة وأربعين عاما .

  • ولم تستطع الهروب سوى سفينتين فرنسيتين ، وبلغت خسائر الفرنسيين ما يزيد على 571 قتيلاً و 51 جريح ، أما خسائر البريطانيين فكانت 812 قتيلاً و276 جريحاً ( بمن فيهم نيلسون ) .

  • وهذه المعركة ( معركة أبوقير البحرية بالإضافة إلى معركة الطرف الأغر ، Trafalgar (1805)  هما آخر محاولتين قامت بهما فرنسا النابليونية لتحدي السيادة الإنجليزية على البحار .

  • وعندما وصلت أخبار هذه النكسة الكاسحة إلى نابليون في القاهرة أيقن أن فتحه لمصر غدا بلا معنى ،  فالمغامرون المرافقون له قد أحيط بهم الآن برا وبحرا وما من سبيل لوصول العون الفرنسي إليهم ، وأنهم سرعان ما سيصبحون تحت رحمة أهل البلاد المعادين ، والبيئة غير المواتية .  

ثورة القاهرة :

 

ثورة القاهرة الاولى :

  • وتضاعفت الأزمات على نابليون وجيشه ، فلا يكاد يمر يوم بلا هجمات يشنها العرب أو الترك أو المماليك غير المؤتلفين مع سادتهم الجدد ، على القوات الفرنسية ، وفي 16 أكتوبر قامت جماهير القاهرة بثورة على الفرنسيين الذين قمعوا الثائرين ، وتخلى نابليون لفترة عن دور الفاتح المتسامح وأمر بقطع أعناق كل ثائر مسلح .  

الحملة الفرنسية فى الصعيد :

 

كانت مقاومة اهالى الصعيد من جرجا حتي الشلالات ( جنوب اسوان ) ، وقد أظهر أهالي الصعيد مقاومات باسلة في صد هجمات الحملة الفرنسية بطريقة أذهلت الفرنسيين انفسهم كما كتب عن ذلك الجنرال ديزية والجنرال بليار وكلاهما من قواد الحملة الفرنسية علي صعيد مصر .

زحفت حملة الجنرال ديزية علي الصعيد الأعلي أو مصر العليا لإخضاعها للإدارة الفرنسية ولم تكن مهمة الجنرال ديزية سهلة حيث اشتعلت الثورة في كل مكان وتوالت هجمات الأهالي علي القوات الفرنسية التي تجتاز البر وتلك التي تجتاز البحر وواجهت القوات الفرنسية في هذا القطاع من صعيد مصر ثلاث قوات مجتمعة ممثلة في العرب القادمين من الحجاز والمماليك والأهالي ودارت معارك عديدة بين أهالي الصعيد وحلفائها وبين القوات الفرنسية.

 

معركة سمهود ( 22 يناير 1799 ) :

 

  • انهزم مراد بك وجيشه في طهطا لكنه بالرغم من ذلك لم يفقد الأمل في أن يلتقي بالفرنسيين في موقعة أخري حاسمة يحقق فيها إنتصارا يعوضه فيها عن هزيمته في طهطا (احدي قري جرجا) خصوصا عندما علم بمجيء قوات من الحجاز ومن عرب جدة وينبع لمساندة إخوانهم المصريين في حربهم ضد الاحتلال الفرنسي وقد جاء هؤلاء من البحر الأحمر مرورا بالقصير إلي أن وصلوا قنا وبعدما انضم الي مراد بك اعداد غفيرة من أهالي الصعيد الثائرين من الشلالات (جنوب أسوان حتي حلفا) حتي جرجا .

  • أصبح جيش مراد بك مكون من ألفان من المماليك وسبعة آلاف من الفرسان المصريين وثلاثة آلاف من المشاة المصريين بالإضافة الي ألفين من عرب جدة وينبع وبذلك أصبح قوام الجيش ما يربو علي اربعة عشر ألف مقاتل .

  • وعلي الجانب الآخر كان الجيش الفرنسي بقيادة الجنرال ديزية مكونا من خمسة آلاف مقاتل من المشاة والفرسان وأربعة عشر مدفعا وعبارة بحرية في النيل .

حادثة اغتيال الجنرال كليبر :

 

الجنرال كليبر

 

كان ذلك يوم السبت 14 يونيو سنة 1800 ، حيث ذهب الجنرال كليبر إلى جزيرة الروضة ليستعرض كتيبة الأروام الذين انخرطوا في سلك الجيش الفرنسي في مصر ، وعاد بعد العرض إلى الأزبكية ، ليتفقد أعمال الترميم في دار القيادة العامة ومسكن القائد العام ، لإزالة آثار الإتلاف الذي أصابها من قنابل الثوار ( ثورة القاهرة الثانية ) ، وكان يصحبه المسيو بروتان ، المهندس المعماري وعضو لجنة العلوم والفنون ، فتفقدا الأعمال معاً ، ثم ذهبا إلى دار الجنرال داماس ، رئيس أركان الحرب ، حيث أعد وليمة غداء للقائد العام ، دعا إليها طائفة من القادة وأعضاء المجمع العلمي ورؤساء الإدارة ، فتناول كليبر الغداء مع المدعوين ، وكان منشرح الصدر على المائدة ، يتحدث مطمئناً على الحالة في مصر .

استمرت الوليمة إلى الثانية بعد الظهر ثم عاد كليبر بصحبة المهندس بروتان إلى دار القيادة العامة ليستأنفا تفقد أعمال الترميم والإصلاح فيها ، وكانت حديقة السراي تتصل بدار الجنرال داماس برواق طويل تظلله تكعيبة من العنب .

  • سار كليبر وبجانبه بروتان في هذا الرواق يتحدثان في إصلاح السراي ، وفي أثناء سيرهما خرج عليهما رجل كان يكمن وراء بئر عليها ساقية ، فاقترب من الجنرال كليبر كمن يريد أن يستجديه أو يتوسل إليه ، لم يرتَب الجنرال في نية ذلك السائل ، لكنه لم يكد يلتفت إليه حتى عاجله القاتل بطعنة خنجر مميتة أصابته في صدره ، فصاح الجنرال : إليّ أيها الحارس ، ثم سقط على الأرض مضرّجاً في دمه ، هنا أسرع المسيو بروتان في تعقب الجاني ، فلما أدركه تماسك الإثنان ، فطعنه القاتل ست طعنات سقط على أثرها على الأرض بجوار كليبر ، وعاد الجاني مرة ثانية إلى كليبر ، فطعنه ثلاث طعنات ليجهز عليه ، بيد أن الطعنة الأولى كانت القاضية لأنها نفذت إلى القلب .

  • لاذ الجاني بالفرار وتوارى عن الأنظار مختفياً في حديقة السراي ، ولم يبق في مكان الجريمة ما يدلّ على القاتل سوى جزء من عمامته التي تمزقت أثناء صراعه مع بروتان .

  • أقبل الحارس الذي سمع الصيحة ، ولما رأى هذا المنظر الرهيب ولّى مسرعاً إلى دار الجنرال داماس وأخبرهم بما رآه ، فأقبل من كانوا موجودين إلى مكان الحادثة ، فرأوا الجنرال كليبر مضرّجاً في دمه وبجانبه بروتان مغمياً عليه ، من شدة الطعنات التي أصابته ، فهالهم ما أبصروه ، ونقلوا الجنرال كليبر إلى دار الجنرال داماس ، وجاء الطبيب ديجنت كبير أطباء الجيش لإسعافه، فوجده ميتاً .

  دهشة واضطراب :

  • انتشر الخبر في القاهرة بسرعة البرق ، فتلقاه الأهالي بالدهشة والجزع الشديد لتوقعهم الانتقام والنكال ، وتلقاه الجنود الفرنسيون بالغضب والسخط والتحفز للوثبة على الأهالي الأبرياء .

  • ضرب النفير العام في أحياء القاهرة جمعاً لشتات الجنود ، فأقبلوا من كل صوب وحدب إلى ميدان الأزبكية يتنادون بالانتقام والأخذ بالثأر ويهددون بإحراق المدينة ، فاستولى الفزع على الناس وأقفلت الدكاكين ، وخلت الطرق من المارة ، وذهب كل إلى داره يطلب النجاة ، من عواقب هذا الحدث الجلل ، وأخذت دوريات الجنود تطوف الشوارع والأحياء ، خصوصاً المجاورة لمنطقة الأزبكية ، للبحث عن القاتل الذي كان متوارياً عن الأنظار ، وأخذ جماعة الحراس يبحثون في حديقة السراي لعلهم يعثرون عليه مختبئاً فيها .

  • بعد ساعة من ارتكاب الجريمة عثروا على القاتل مختفياً في الحديقة الملاصقة لدار القيادة وراء حائط مهدّم ، أدركه اثنان من صفّ ضباط الحرس من الملازمين لدار الجنرال كليبر ، فحاول الهرب لكنهما قبضا عليه ، وساقاه إلى دار رئيس أركان الحرب حيث كان قادة الجيش مجتمعين .

  • كانت دلائل الجريمة بادية في المكان الذي قبض عليه فيه ، فعلى الحائط الذي كان مختفياً وراءه آثار دماء ، وملابسه ملوثة بدم الجريمة ، وعثروا على الخنجر في المكان الذي قبض فيه على القاتل وعلى نصله دماء القتيل .

  • لما سيق القاتل إلى منزل الجنرال داماس استجوبه الجنرال مينو ، وواجهه بالمهندس بروتان ، فتعرّف إليه وأرشد عليه من جماعة من العمال وضع بينهم خصيصاً للتأكد من صحة التعرف ، وشهد الشهود بأن القاتل كان يتبع خطوات الجنرال كليبر منذ أيام عدة ، فقد رأوه في الجيزة يسعى إلى الدخول إلى مقر القائد العام بحجة تقديم عريضة إليه ، ولكن المسيو بيروس ، سكرتير كليبر الخاص ، رفض الإذن له بالمقابلة .

  طالب من حلب :

 

سليمان الحلبى

رسم يوضح حادث مقتل كليبر

 

  • وفي صباح يوم الجريمة اندسّ القاتل بين جماعة من الخدم ، ، ورآه الياور ديفوج أحد ياوران كليبر ، فظنّ أنه من العمال الذين يشتغلون في عمارة السراي ، فأمر بطرده من الحديقة .

  • مع هذه البيانات القاطعة كان القاتل ينكر الجريمة ، فاتبع معه ( برتلمي الرومي ) طريقة التعذيب لإكراهه على الاعتراف ، وأخذ في ضرب القاتل حتى اعترف بجريمته وأبان عن شخصيته ، فإذا هو طالب علم من حلب في الرابعة والعشرين من عمره اسمه سليمان الحلبي ، أبوه تاجر من حلب اسمه الحاج محمد أمين ، غادر بلدته في سورية وذهب إلى بيت المقدس ، ثم حضر إلى القاهرة خصيصاً لقتل كليبر وقضى فيها واحداً وثلاثين يوماً .

  • تبين من اعتراف القاتل في التحقيق وأمام المحكمة أن القتل وقع بتحريض رؤساء الجيش العثماني ، ذلك أن الحلبي التقى في القدس ضابطاً من ضباط الجيش العثماني اسمه «أحمد أغا» يعرفه القاتل منذ كان رئيساً للإنكشارية في حلب ، وكان هذا الضابط معزولا من وظيفته ، وجاء إلى القدس سعياً إلى مقابلة الصدر الأعظم ليلتمس منه إعادته إلى منصبه ، فالتقى به سليمان الحلبي وشكا إليه مظالم إبراهيم باشا والي حلب ، وإرهاقه لوالده وإجباره على أداء غرامات فادحة ، وطلب من أحمد أغا أن يشفع لوالده ليرفع عنه ما لحق به من ظلم ، فوعده أحمد أغا بمساعدته وإنصاف والده على أن يسافر إلى مصر ويغتال قائد الجيش الفرنسي ، وكان هذا الحديث بعد رجوع الجيش العثماني منهزماً إلى سورية ، فقبل سليمان الحلبي ، فأرسله أحمد أغا إلى ياسين آغا ، حاكم غزة وأوصاه بأن يعطيه ما يحتاج إليه من المال ليسافر إلى مصر .

  • سافر الحلبي من القدس إلى الخليل ومنها إلى غزة ، وقابل ياسين آغا فوعده برفع المغارم عن أبيه ، وأعانه بالمال ، وسافر من غزة إلى مصر بصحبة قافلة من التجار ، فأدرك القاهرة في ستة أيام، وبلغها يوم 14 مايو .

  • كان يعرف المدينة سابقاً إذ قضى فيها ثلاث سنوات يطلب العلم في الأزهر ، فنزل عند وصوله في دار معلم تركي ( خطاط ) اسمه مصطفى أفندي البروسلي ، وهو شيخ يبلغ الثمانين ، كان يتعلم القاتل على يده في صغره ، فنزل في داره وبات لديه أول ليلة ، لكنه لم يفضِ إليه بعزمه ، ثم انتقل وسكن الجامع الأزهر وانتظم في سلك طلبة العلم .

  • قضى في الأزهر نحو ثلاثين يوماً ، وأفضى بعزمه إلى أربعة من الطلبة ، وهم: أحمد الوالي ، ومحمد الغزي ، وعبدالله الغزي ، وعبدالقادر الغزي ، ( ليسوا أشقاء ، بل ملقبون باسم بلدهم غزة ) فأنكر الأربعة عليه هذا العزم ورموه بالطيش والجنون ، ونصحوه بالإقلاع عن عزمه ، فلم يسمع لنصحهم .

  • ذهب مساء 13 يونيو إلى الجيزة حيث كان كليبر ، واستفهم من النوتية الذين في خدمة الجنرال عن موعد خروجه ، فأخبروه أن هذا الأخير يتروض في مساء كل يوم في حديقة سراي القيادة العامة بالأزبكية .

  • حاول سليمان الحلبي دخول الحديقة في ذلك المساء فلم يفلح ، وقضى الليلة في أحد المساجد ، وفي صباح 14 يونيو تتبع خطوات الجنرال ، فسار إثره إلى الروضة ( منطقة المنيل ) ثم عاد وراءه إلى القاهرة ، وتمكن من التسلل إلى حديقة القيادة العامة ، ووصل إلى الرواق الذي ارتكب فيه الجناية .

  • لما اعترف القاتل بجنايته ، أُمر بالقبض على الأزهريين الأربعة الذين وردت أسماؤهم في أقواله ، فاعتقل منهم ثلاثة وفرّ الرابع ( عبدالقادر الغزي ) ، واستجوب الثلاثة فأنكروا ما نسبه القاتل إليهم .

التحقيق والمحاكمة :   

أصدر الجنرال مينو ( كان قومندان القاهرة وأقدم جنرالات الحملة الفرنسية في مصر وخلف كليبر في قيادتها ) في اليوم نفسه أمراً بتشكيل محكمة عسكرية لمحاكمة قتلة كليبر ، مؤلفة من تسعة أعضاء من كبار رجال الجيش برئاسة الجنرال رينيه ، وعهد إلى القوميسير سارتلون ، مدير مهمات الجيش ، القيام بوظيفة المدعى العمومي ، وانعقدت المحكمة يوم 15 يونيو ، وقررت أن يتولى الجنرال رينيه والقوميسير سارتلون إجراء التحقيق وجمع البيانات للوصول إلى معرفة المتهمين .

الجنرال مينو

  • تولى القوميسير سارتلون التحقيق في القضية ، فكتب محضراً باستجواب سليمان الحلبي عقب الحادثة واستجواب المتهمين الآخرين ، وأخذ في سماع أقوال الشهود .

  • قال جوزيف بيران ، من فرسان الحرس ، إنه هو والفارس روبرت عثرا على القاتل مختبئاً في الحديقة وراء حائط متهدم عليه آثار الدماء ، وأن القاتل كان ملوثاً بالدم أيضاً ، فقبضا عليه وهو في هذه الهيئة ، وأنهما عثرا بعد ساعة من اعتقال الجاني على خنجر مدفون في المكان الذي كان مختبئاً فيه وعلى نصله دماء .

  • انتقل المحقق بعد ذلك إلى دار المهندس بروتان الذي كان يرافق الجنرال كليبر وقت الجريمة ، وكان طريح الفراش بسبب الإصابات التي لحقت به ، فشهد برؤيته القاتل يرتكب الجناية ، وقال إنه ضربه بعصا ليدافع عن الجنرال كليبر ، فانقضّ عليه القاتل وطعنه طعنات عدة ، فسقط بعدها على الأرض مغشياً عليه ، وأشار إلى أنه بعد صياحه وصياح الجنرال كليبر بقي عشر دقائق قبل أن تصلهما النجدة ، وأنه تعرّف على القاتل بعد القبض عليه .

  • سمع المحقق أقوال الملازم ديفوج ، ياور الجنرال كليبر ، فقال إنه في يوم الحادثة كان يصاحب الجنرال في تفقده دار القيادة العامة بالقاهرة ، وأن القاتل كان لا ينفكّ يتعقب الجنرال وكانوا يظنون أنه أحد العمال الذين يعملون في ترميم السراي ، فلم يرتابوا في شأنه ، لكنه لاحظ أن القاتل تعقّب الجنرال بعد أن خرج من حديقة السراي قاصداً دار الجنرال داماس ، رئيس أركان الحرب ، فسأله عما يريد وأمر بطرده ، وطرده الخدم فعلا، وبعد ساعتين وقعت الجناية .

  • سجل ديفوج في أقواله أنه لاحظ وجود جزء من ملابس القاتل تركه في مكان الجريمة فتعرّف عليه ، وتأكد من ملابس هذا الأخير بعدما قبض عليه ووجد جزءاً من ملابسه ممزقاً .

  • أعاد المحقق استجواب سليمان الحلبي ، وكان يتولى الترجمة المسيو براسفيش كبير مترجمي القائد العام ، فكرّر المتهم اعترافاته السابقة ، واقر بأن المحرّضَين له على القتل هما أحمد أغا وياسين أغا ، من ضباط الجيش العثماني ، وأن أحمد أغا اختاره لأنه يعرف القاهرة معرفة تامة حيث قضى فيها ثلاث سنوات في طلب العلم بالأزهر ، وأنه كاشف الأزهريين الأربعة بعزمه ، وكان يفضي إليهم به يومياً ، لكنهم كانوا ينصحونه بالإقلاع عن عزمه لاستحالة نجاحه .

  • أمر المحقق بمواجهة سليمان الحلبي بالأزهريين الثلاثة المقبوض عليهم واستجوبهم في ما قرره بشأنهم ، وكان يرتاب في مسلك علماء الأزهر خصوصاً الشيخ الشرقاوي ، شيخ الجامع ، في أن يكون لهم دور تحريضي ، وكان سير التحقيق متجهاً إلى جمع البيانات لإثبات علم الشرقاوي بنية القاتل قبل ارتكاب الجناية ، لكن التحقيق لم يسفر عن إدانة الشيخ الشرقاوي أو غيره من كبار علماء الأزهر .

عقوية الموت :

  • أسفر التحقيق عن اتهام سليمان الحلبي والأزهريين الأربعة الذين أفضى إليهم بعزمه على ارتكاب الجناية ، كذلك مصطفى أفندي البروسلي الذي بات لديه سليمان حين حضوره إلى مصر ، فكان عدد المتهمين ستة ، ولما كان أحد الأزهريين الأربعة وهو عبدالقادر الغزي هارباً ، حوكم غيابياً .

  • طلب المدعي العمومي من المتهمين أن يعهدوا بالدفاع عنهم إلى رجل يترافع أمام المحكمة فأجابوا أنهم لا يعرفون أحداً ، فانتدب للدفاع عنهم المترجم لوماكا .

  • انعقدت المحكمة العسكرية يوم 16 يونيو ، وأخذت في سماع مرافعة المدعي العمومي ودفاع المتهمين ، وطلب المدعي العمومي بتوقيع العقاب على القاتل وشركائه ، ونسب الجريمة إلى الصدر الأعظم يوسف باشا ، وقال إن الذي تولى إغراء سليمان على القتل هو أحمد أغا الذي كان مغضوباً عليه من الوزير ، فأراد التقرّب منه بهذا العمل الفظيع لينال رضاه ، وإن القاتل اندفع إلى القتل تحت تأثير هذا التحريض ، وإن تهمة المشايخ الأربعة بعلمهم بنية القاتل وتصميمه عليها ، ومع ذلك لم يخبروا ولاة الأمور بعزمه ، فهم يعتبرون شركاء للقاتل في جريمته ، وطلب البراءة لمصطفى أفندي لأنه لم يثبت علمه بالجريمة ، وطلب الحكم على سليمان الحلبي بحرق يده اليمنى التي باشر بها القتل ، ثم إعدامه على الخازوق وترك جثته تأكلها جوارح الطير ، وبالنسبة إلى المشايخ الأربعة طلب قطع رؤوسهم .

  • وبعد أن تمت المرافعة طلبت المحكمة من المتهمين أن يدافعوا عن أنفسهم فلم يردوا بشيء ، فأعيدوا إلى السجن ، وأمرت المحكمة بإخلاء القاعة ، واختلت للمداولة .

  • ثم أصدرت المحكمة حكمها باعتبار سليمان الحلبي وشركاءه الأربعة مذنبين ، وبراءة مصطفى أفندي وإطلاق سراحه ، وحكمت بإحراق يد سليمان الحلبي اليمنى ، ثم إعدامه على الخازوق وترك جثته تأكلها الطير ، وبراءة سليمان أفندي وإطلاق سراحه ، وإعدام شركائه الأربعة بقطع رؤوسهم وإحراق جثثهم بعد الإعدام ، مع مصادرة أموال المتهم الغائب عبدالقادر الغزي .

  يقول الجبرتى :

 

( ولما فرغوا من ذلك اشتغلوا بأمر ساري عسكرهم المقتول وذلك بعد موته بثلاثة أيام ، كما ذكر ، ونصبوا مكانه عبد الله جاك منو ونادوا ليلة الرابع من قتلته ( مقتله ) وهي ليلة الثلاثاء الخامس والعشرين من المحرم (18 يونيو1800م )  في المدينة بالكنس والرش في جهات حكام الشرطة .

فلما أصبحوا اجتمع عساكرهم وأكابرهم وطائفة عينها القبط والشوام وخرجوا بموكب مشهده ركباناً ومشاة وقد وضعوه في صندوق من رصاص مسنّم الغطاء ووضعوا ذلك الصندوق على عربة وعليه برنيطته وسيفه والخنجر الذي قتل به وهو مغموس بدمه ، وعملوا على العربة أربعة بيارق صغار في أركانها معمولة بشعر أسود ، ويضربون بطبولهم بغير الطريقة المعتادة وعلى الطبول خرق سود ، والعسكر بأيديهم البنادق وهي منكّسة إلى أسفل وكل شخص منهم معصب ذراعه بخرقة حرير سوداء ، ولبسوا ذلك الصندوق بالقطيفة السوداء وعليها قصب مخيش ، وضربوا عند خروج الجنازة مدافع وبنادق كثيرة وخرجوا من بيت الأزبكية على باب الخرق ( باب الخلق ) إلى درب الجماميز إلى جهة الناصرية ، فلما وصلوا إلى تل العقارب حيث القلعة التي بنوها هناك ضربوا عدة مدافع وكانوا أحضروا سليمان الحلبي والثلاثة المذكورين فأمضوا فيهم ما قدر عليهم ثم ساروا بالجنازة إلى أن وصلوا باب قصر العيني ، فرفعوا ذلك الصندوق ووضعوه على علوة من التراب بوسط تخشيبة صنعوها وأعدوها لذلك وعملوا حولها درابزين وفوقه كساء أبيض وزرعوا حوله أعواد سرو ، ووقف عند بابها شخصان من العسكر ببنادقهما ملازمان ليلاً ونهاراً يتناوبان الملازمة على الدوام ، وانقضى أمره واستقر عوضه في السرّ عسكرية قائمقام عبد الله جاك منو ، وهو الذي كان متولياً على رشيد من قدومهم ، وقد كان أظهر أنه أسلم وتسمى بعبد الله وتزوج بامرأة مسلمة ) .

 

 

نتائج الحملة الفرنسية

 

النتائج الاجتماعية :

  • تعرف المصريون على الحضارة الغربية بمزاياها ومساوئها .

  • عرف المصريون بعض الإنظمة الإدارية عن الفرنسيين ، ومن بينها سجلات المواليد والوفيات وكذلك نظام المحاكمات الفرنسي ، وبرز ذلك في قضية سليمان الحلبي .

النتائج العلمية :

 

*  كتاب وصف مصر :

 

كتاب وصف مصر

 

  • رافقت الحملة الفرنسية مجموعة من العلماء في شتى مجال العلم في وقتها ، أكثر من 150 عالما واكثر من 2000 متخصص من خيرة الفنانين والرسامين والتقنيين الذي رافقوا القائد الفرنسي نابليون بونابرت في مصر خلال اعوام  1798- 1801 ، من كيميائيين وأطباء وفلكيين إلى آخرة ، وقام هؤلاء العلماء بعمل مجهد غطى جميع أرض مصر من شمالها إلى جنوبها خلال سنوات تواجدهم ، وقاموا برصد وتسجيل كل أمور الحياة في مصر انذاك وكل مايتعلق بالحضارة المصرية القديمة ليخرجوا إلى العالم 20 جزءا لكتاب  ( وصف مصر ) وتميز الكتاب بصور ولوحات شديدة الدقة والتفاصيل .

  • ويعتبر هذا الكتاب ألان أكبر وأشمل موسوعة للأراضي والآثار المصرية كونها أكبر مخطوطة يدوية مكتوبة ومرسومة برسوم توضيحية ، قتميزت بالدراسة العميقة للدارسين والاكاديميين الذين رافقوا نابليون ، كما تشتمل هذه المجموعة على صور ولوحات لأوجه نشاط المصري القديم للآثار المصرية ، وأيام الحملة نفسها ، والتاريخ الطبيعي المصري ، بالإضافة إلى توثيق كل مظاهر الحياه والكنوز التاريخية والفنية والدينية المصرية وتسجيل جميع جوانب الحياة النباتية والحيوانية والثروة المعدنية آنذاك .

  • وقد أصدرت مكتبة الإسكندرية ( نسخة رقمية ) من هذا الكتاب ( وصف مصر ) على أقراص مضغوطة .

* فكرة حفر قناة السويس :

 

فكرة حفر قناة السويس فى عصر نابليون

 

  • حيث اقترح علماء الحملة توصيل البحرين الأحمر والمتوسط فيما يعرف الآن باسم " قناة السويس " , ولكن الفكرة لم تنفذ وذلك بسبب اعتقاد خاطئ بان البحر الأحمر أعلي في المستوي من البحر المتوسط .

* فك رموز حجر رشيد :

 

جان فرانسوا شامبليون

حجر رشيد

  • حيث استطاع شامبليون فك رموز حجر رشيد واكتشاف أسرار اللغة المصرية القديمة , وقد ساعد فك رموز اللغات المصرية القديمة ( الهيروغليفية – الهيراطيقية – الديموطيقية ) من معرفة اسرار الحضارة الفرعونية .

  • اكتشاف الحضارة المصرية القديمة ، وقيام العلماء الفرنسيين بتأليف كتاب ( وصف مصر ) الذي يصف مصر منذ قيام الحضارة الفرعونية إلى خروج الحملة من مصر .

* خريطة القطر المصرى :

  • حيث قامت الحملة برسم أول خريطة دقيقة للقطر المصري .

النتائج السياسية :

  • لفتت الحملة الفرنسية على مصر أنظار العالم الغربي لمصر وموقعها الإستراتيجي وخاصة إنجلترا ، مما كان لهذه النتيجة محاولة غزو مصر في حملة ( فريزر ) فى 19 سبتمبر 1807م الفاشلة على رشيد ، بعد أن تصدى لها المصريون ، بعد ذلك بسنوات قلائل .

  • إثارة الوعي القومي لدى المصريين ولفت انتباههم إلى وحدة أهداف المحتل على اختلاف مشاربهم ألا وهو امتصاص خير البلاد .

 انتهاء الحملة الفرنسية :

  • في معركة أبي قير البحرية وبعد حصار الشواطئ المصرية ، تم تحطيم الأسطول الفرنسي وغرق بمجمله ، فقام الجنرال ( مينو ) بعد ذلك بتوقيع اتفاقية التسليم مع الجيش الإنجليزي ، وخروجهم بكامل عدتهم من مصر على متن السفن الإنجليزية ، فكذلك انتهت الحملة النابليونية عن البلاد , بعد أن اثرت على المسألة الشرقية وحولتها إلى مسألة أوروبية .

  رصد الحملة الفرنسية ونتائجها :

  • لعل من أبرز من تتبع الحملة الفرنسية على مصر هو الشيخ ( عبد الرحمن الجبرتي ) ، والذي يعد كتابه هو المرجع الأساسي لتلك الفترة من تاريخ مصر ، فقد ذكر كل الحوادث بالتفصيل ، حيث اعتمد المؤرخ الكبير عبد الرحمن الرافعي على المصادر الفرنسية التي أرخت فترة الغزو الفرنسي لمصر، لتحقيق تاريخ مصر الحديث وتحريره منذ نهاية القرن الثامن عشر حتى قيام ثورة يوليو عام 1952، وجاءت مؤلفاته في هذا المجال دقيقة ومحايدة وأشاد بها كل من له علاقة بالتاريخ، لذا ننقل عنه مضمون ما جاء في رواية الجبرتي، وما جاء في المصادر الفرنسية حول حادثة اغتيال كليبر، بعد التحقق من كل واقعة .  

الصفحة السابقة

الصفحة التالية

 

Copyright 2008 © www.faroukmisr.net