فاروق ظالما او مظلوما

بقلم : فاروق شوشة

بيني وبين الملك فاروق علاقة من نوع خاص‏,‏ فأنا سميه ـ بشدة علي الياء ـ أي سميت باسمه حين ولدت‏,‏ وكان هو في الشهور الأولي من توليه عرش مصر‏,‏ ثم أصبحت لي شقيقة بعد عامين‏,‏ سماها أبي فريدة‏,‏ علي اسم الملكة فريدة التي تزوجها فاروق‏,‏ وكان زواجهما مواكبا لميلاد شقيقتي‏,‏ وعندما ولدت شقيقتي الثانية بعد عامين آخرين‏,‏ لم يجد أبي اسما ملكيا ثالثا يليق بها‏,‏ فالتفت إلي اسم ملكة الإنجليز العظيمة فيكتوريا وأطلقه علي أختي‏,‏ دون أن يبالي ـ طرفة عين ـ بأنه اسم مسيحي يطلق علي ابنته المسلمة‏,‏ وكانت النتيجة المثيرة للدهشة والتساؤل باستمرار أن تصبح لي شقيقة هي فيكتوريا‏,‏ أبوها اسمه محمد‏,‏ دلالة علي أن الحياة المصرية والمعايشة المصرية الحقيقية كانت دائما تنتصر لروح المحبة والأخوة‏,‏ فيأخذ المسيحي من أسماء المسلم‏,‏ والمسلم من أسماء المسيحي‏,‏ والكل في حسبانهم مرجعه إلي الخالق الكريم‏,‏ أليس هو القائل في محكم كتابه‏:‏ وعلم آدم الأسماء كلها‏.‏ وعندما اكتشف أبي ـ رجل التعليم والتربية‏,‏ أنه بهذه الثلاثية من الأسماء قد تورط في حرف الفاء التزم به فيما تلانا من أشقاء وشقيقات‏,‏ فتحققت امبراطورية الفاء لخمسة أشقاء وخمس شقيقات‏.‏
وظلت هذه العلاقة الشديدة الخصوصية‏,‏ التي ربطتني باسم الملك فاروق تبعث في كيان الطفل الصغير لونا من الزهو والشعور بالفخر‏,‏ حتي كبر الصبي‏,‏ ورأي بعينيه وسمع بأذنيه هتافات الجماهير ومظاهرات الطلاب ـ وهو واحد منهم ـ مطالبة بسقوط الملك الذي خان شعبه وفقد ثقته فيه ووقف في وجه مطالبه الوطنية‏.‏ فانسلخ طالب المرحلة الثانوية من هذه العلاقة الخاصة مع الملك واسمه ليصبح شاعر المدرسة الذي يصوغ الأناشيد ويحرض بأشعاره الأولي زملاءه الطلاب علي المزيد من الثورة والتظاهر ـ ضد الملك وأسرته الحاكمة ـ قبيل قيام ثورة يوليو بشهور قليلة‏.‏
ومنذ اسابيع قليلة‏,‏ نجحت الباحثة الجادة والدءوب سهير حلمي ـ التي تنتمي إلي كوكبة شباب نصف الدنيا التي تقودها المبدعة الكبيرة المتألقة دوما سناء البيسي‏,‏ العلامة البارزة في حاضر الصحافة المصرية والعربية‏,‏ صاحبة الاقتحامات والانفرادات والمدرسة الأسلوبية المتفردة ـ أقول نجحت سهير حلمي ـ التلميذة المتفوقة في مدرسة سناء البيسي في إعادتي إلي تاريخ هذه العلاقة التي امتدت طويلا مع الملك فاروق سلبا وإيجابا‏,‏ قبولا ورفضا‏,‏ زهوا وتنصلا‏,‏ انتماء وتباعدا‏,‏ من خلال كتابها الجليل وإنجازها الضخم‏:‏ فاروق‏..‏ ظالما ومظلوما‏,‏ الذي هو وثيقة عصر بكامله‏,‏ وديوان حياة مصرية عاشها جيلي بكل انفعال المشاركة ووعي المتابعة‏,‏ ولايزال يعيش توابعها وآثارها ومقارناتها حتي اليوم‏,‏ لاعنا أشياء‏,‏ ومترحما علي أشياء‏,‏ في حالة وجدانية وعقلية شديدة التداخل والاختلاط والتفاعل‏,‏ نجحت سهير حلمي في الاعتماد علي تسعة وخمسين مرجعا‏,‏ كل واحد منها حجة وعلامة في بابه ومجاله‏,‏ تشكل موسوعة معرفية حقيقية لكن من يريد أن يدرس الظاهرة الفاروقية في وجهيها‏:‏ الظالم والمظلوم‏,‏ بكل موضوعية وتجرد‏,‏ ووعي مضمخ بروح المسئولية‏,‏ والرغبة في التوصل إلي وجه الحقيقة ـ قدر المستطاع ـ وهو ماحاولته كتابات كثيرين تناولت عصر فاروق وشخصيته وتاريخ الحركة الوطنية والثورة المصرية والفكر المصري الحديث والسياسة وزعماءها وصولا إلي البوليس السياسي‏,‏ والحركة الشيوعية المصرية والحرس الحديدي والاغتيالات السياسية وما كتب عن الملكة فريدة‏,‏ وسقوط الملكية والأسلحة الفاسدة وروميل ومونتجمري‏,‏ وطلاق الامبراطورة فوزية‏,‏ والعيب في الذات الملكية‏,‏ وحريق القاهرة‏,‏ ومذكرات رجال السياسة وكتابات الباحثين والمؤرخين المصريين والأجانب‏,‏ وغيرها من العناوين والمداخل والموضوعات‏.‏
ولأن أروع ما في الكتاب ـ بالإضافة إلي هذا كله ـ مايحويه من ذخائر وكنوز الصور الفوتوغرافية ـ التي لا أظن أن كتابا قبله قد اتسع لأقل القليل منها ـ فقد استعانت الباحثة بعدد من أصحاب هذه الذخائر النفيسة والنادرة الذين اتسعت خزائنهم لتاريخ مصر المصور‏,‏ وهو ما ازدانت به مئات الصفحات في هذا الكتاب النادر النفيس ‏.

ولأن أروع ما في الكتاب ـ بالإضافة إلي هذا كله ـ مايحويه من ذخائر وكنوز الصور الفوتوغرافية ـ التي لا أظن أن كتابا قبله قد اتسع لأقل القليل منها ـ فقد استعانت الباحثة بعدد من أصحاب هذه الذخائر النفيسة والنادرة الذين اتسعت خزائنهم لتاريخ مصر المصور‏,‏ وهو ما ازدانت به مئات الصفحات في هذا الكتاب النادر النفيس ‏.

من أروع فصول الكتاب :‏ اسلوبا وطريقة عرض وتحليل الفصل الذي عنوانه مصر في عهده وتأملوا معي شواهد هذا العصر في مجموعة من العناوين والمانشيتات المختارة التي كأنها طلقات أو ومضات وآلة سريعة‏ :‏ انتخاب المصرية شارلوت واصف ملكة لجمال العالم عام ‏1936‏ ـ محمد عبد الوهاب يشدو‏:‏ إن عشقنا فعذرنا أن في وجهنا نظر ـ الجنيه المصري يساوي الف فرنك سويسري عام ‏1942‏ ـ أقطاب السياسة ومشاهير الفن‏(‏ النحاس وأحمد ماهر والنقراشي وأم كلثوم‏)‏ يقضون الويك إند في عشش رأس البر ـ كابتن الضظوي يحرز ثلاثة أهداف صاروخية مقابل لاشيء في مرمي الفريق الايطالي ـ الصحافة القاهرة تكتب ‏:

 أزمة الغلاء هي سبب أزمة الأخلاق ـ القاهرة ‏2,5‏ مليون نسمة ـ تسجل عام ‏1948‏ رقما قياسيا في حوادث المرور يضعها في قائمة أسوأ خمسين مدينة مرورية في العالم ـ بيرم التونسي ينظم زجلا رائعا في فساد المحليات ـ الجنيه المصري يفقد ‏75%‏ من قيمته عام ‏1949‏ ـ توفيق الحكيم يطالب بتحويل البرلمان الي مصنع للطائرات وإلغاء الطربوش الأحمر الشفتشي لأنه يتناقض مع الوقار علي حد تعبيره ـ قصة غرامية للمليونير المصري ع تتحول إلي ملهاة سياسية ـ الملك يطلب من أم كلثوم تعديل كلمة في إحدي قصائدها فترفض الطلب ـ المخابرات البريطانية تستعين بحفلات الكوكتيل والجميلات لاختراق أعماق الحياة الاجتماعية‏ .‏ القاهرة تشهد أكبر مسابقة لجمال السيقان ـ استجواب في البرلمان عن الخبز المخلوط بالجبس والأسمنت ـ‏48‏ الف مصري يحجون عام ‏1950‏ - ‏400‏ من حملة الليسانس يتزاحمون علي عشرين وظيفة ـ درية شفيق تطالب بحق المرأة في الترشيح للبرلمان ـ الصحف تشير إلي الملك بكلمة كبير .. الخ .

وتعلق الباحثة الشابة المتألقة سهير حلمي علي هذه المانشيتات وعشرات غيرها بأسلوبها المتدفق ولغتها الفراشية قائلة ‏:‏

طاردتني عبارة الزمن الجميل بانطباع رومانسي‏,‏ ظللت أبحث عن صداه وأنقب عن محاسنه في زوايا وثنايا تلك الفترة التاريخية‏ ,‏ فأطلت النظر في مرآة الرأي العام‏ ,‏ أي الصحافة المقروءة بمختلف اتجاهاتها وتياراتها‏ ,‏ وبكل أسف أحبطني ما اكتشفت‏ ,‏ فلم تكن السيادة دائما لألوان قزح‏ ،‏ فما أكثر السواد الذي طالعني في صحائفنا آنذاك‏,‏ باستثناء قممنا الفنية والأدبية‏ ,‏ وتربعنا علي عرش الفنون والآداب في العالم العربي ،‏ وحتي تكتمل الموضوعية التاريخية يتحتم علينا تقييم فاروق ملكا من خلال انعكاسات  انطباعات الإطار الاجتماعي علي الصحافة في عهده‏.‏ فهل كان حقا عهدا جميلا؟ أم أنه مجرد شريط ذكريات تم انتقاؤه بعناية وأناقة توارثتها الاجيال ايذانا باجترارها لمجرد الشعور بنقائص الحاضر وإحباطاته ؟ فلكل عهد مشاكله ومنغصاته ولقد خلقنا الإنسان في كبد صدق الله العظيم ‏.

وأخيرا‏,‏ التهنئة بصدور هذا العمل الجليل النفيس لمن؟ لسهير حلمي ؟ أم لسناء البيسي ؟ أم لمؤسسة الأهرام التي رعت ونشرت أم للثلاث معا ؟‏!..‏ ولعشرات غيرهم في الظل عملوا وساعدوا وأنجزوا فكان هذا الإنجاز الجميل‏ .

 


 

الصفحة السابقة

 

Copyright 2008 © www.faroukmisr.net