عندما جلست مع الملك فاروق فى رمضان

 

 

عزت السعدنى

مجلة نصف الدنيا

إذا كان الرجل هو الشمس التي تضيء النهار بالنور والنار.. فإن المرأة هي القمر الذي خلقه الله لكي يضيء ليل الرجل  .

في حياة الصغار دائما حكايات ومواقف وقصص لا تنسي أبدا .. ولا يمحوه الزمن من ذاكرتهم .. وكأنها قد أصبحت كاللوح المحفوظ .. أو كالكتابات الجدارية التي سجل بها أجدادنا العظام تاريخهم وانتصاراتهم وغزواتهم وأسفارهم ومزاميرهم وأهازيجهم وكتاب حياتهم كله ..

وفي حياتي حكايات لا تنسي أبدا .. مكتوبة في ذاكرتي .. حتي أنها أصبحت قطعة من كياني من روحي .. من تكويني النفسي والعلمي والأدبي والإبداعي كأنني قد ولدت بها وخرجت إلي الحياة معها ..

من تلك الحكايات التي مازالت عالقة بذاكرتي أني كنت في نحو الثالثة من عمري .. وكانت الحرب العالمية الثانية لم تضع أوزارها بعد .. وربما كنا في سنواتها الأخيرة .. وجاء شهر رمضان .. وأذكر أنه كان في أيام الصيف .. وكنا في اجازة المدارس وكنا نعيش في القناطر الخيرية أيام الإجازة .. ونذهب إلي شبين الكوم عندما تفتح المدارس .. وكان أبي يذهب إلي شبين الكوم , حيث كان يعمل مهندسا للري هناك .

وفي أحد الأيام اصطحبني أبي ومعي أخي صلاح الذي يكبرني بأربعة أعوام إلي القاهرة بعد الافطار لكي نذهب لزيارة سيدنا الحسين والسيدة زينب وأولياء الله الصالحين .. وركبنا القطار إلي القاهرة .. وكانت تلك أول زيارة لي إلي حي الحسين الشهير والذي ظل معلقا في وجداني حتي هذه الساعة .

وصلينا العشاء في مسجد سيدنا الحسين .. وقال لي أبي إنه نسخة مصغرة من مقام النبي بعد الصلاة والسلام في المدينة المنورة .. ثم طلب منا والدي ان نذهب كلنا لكي نستمع إلي الشيخ مصطفي إسماعيل أشهر مقرئي هذا الزمان في قصر عابدين ..
وركبنا الترام المفتوح وجلسنا نتفرج علي القاهرة الساحرة في الأربعينيات وهي تلبس حلة رمضان بعقود من المصابيح الكهربائية المعرفة والعلم الأخضر أو الهلال والنجوم الثلاثة الذي كان العلم المصري الرسمي .. وهو بحق أجمل علم رفع فوق سارية مصر ..  وأنا شخصيا ومن خلفي طابور طويل من عقلاء القوم فينا طالبنا مرارا بالعودة إلي علم مصر الأخضر بدلا من العلم الملون بالأسود والأحمر والأبيض وقد قالوا لنا ان اللون الأسود في العلم يرمز إلي العهد البائد يعني عهد الباشوات والاقطاعيين !  أما الأحمر هو رمز ثورة 32 يوليو ، وأما الأبيض فهو المستقبل ! .

وأذكر أنني في السبعينيات كتبت تحقيقا لتغيير العلم والعودة إلي العلم الأخضر .. واعتبرتها الصحافة والتليفزيون الرسمي أيامها أوامر صدرت بالتغيير .. فاقاموا حملة كبري تأييدا للتغيير .. ثم عادت ريما لعادتها القديمة .. بعد فاصل من التوبيخ لي من عمنا وأستاذنا الفارس النبيل علي حمدي الجمال رئيس تحرير الأهرام أيامها .. ما علينا .. نحن الآن داخل سرادق قصر عابدين .. نستمع إلي تلاوة من الذكر الحكيم في ليلة من ليالي رمضان .. أبي + أخي صلاح + أنا  ، لم يسألنا أحد : من أنتم ؟ وهل معنا بطاقات تثبت أننا حقا مصريون غلابة لا نهش ولا ننش ؟

ولم نجد سوي اثنين من عساكر زمان بتوع : "مين هناك" .. علي باب الخيمة المنصوبة في ساحة قصر عابدين .. حيث يقيم الملك فاروق الأول ملك مصر والسودان ـ وهذا هو لقبه أيامها ـ بصفة دائمة !

وجاءت اللحظة التاريخية التي لاتنسي أبدا .. من غير موتسكيلات قوية وتزمجر .. ومن غير ألف مخبر ومخبر .. ومن غير عربات أمن مركزي تحاصر السرادق والحي كله .. ومن غير حراسة شخصية .. ظهر الملك فاروق الأول ملك مصر والسودان .. علي رأس سلم القصر وإلي يمينه الياوران الخاص به .. وإلي يساره أحمد حسنين باشا كبير الياوران أو كبير رجال القصر أيامها ..

وقد عرفت كل هذه المعلومات في ساعتها من أحد الجالسين إلي يميني .. والذي قال لنا أنا وأخي صلاح : إوعي حد يتكلم أو يقوم من مكانه .. خليكم قاعدين كوسين كده زي الولاد الشطار ..

وجلسنا وكأن علي رؤوسنا الطير كما تقول العرب .

مجرد ظهور الملك .. توقف الشيخ مصطفي إسماعيل عن تلاوة آيات الذكر الحكيم بأشارة من أحمد حسنين باشا .. وأذكر أنه كان يقرأ ليلتها آيات من سورة يوسف عليه السلام ـ ومن يومها وأنا عاشق لهذه السيرة العطرة .. وأعد لها كتاب الآن ارجو أن يمد الله في عمري حتي أكمله ..

وباشارة من الملك فاروق عاد الشيخ مصطفي إسماعيل إلي تلاوة آيات الذكر الحكيم .. وصوته مازلت أعشقه من ليلتها .

وجلس الملك فاروق بلباسه الملكي وطربوشه الأحمر علي كرسيه المذهب قبالة الشيخ مصطفي إسماعيل وإلي جواره أحمد حسنين باشا .. لا حاشية ولا وزراء .. ولا رئيس وزراء ولا رجال الحزب أو الحكومة عن بكرة أبيها .. فقط ملك وكبير أمناء القصر وسط الجماهير يستمعون إلي آيات من القرآن الكريم في ليلة من ليالي رمضان .. في الأربعينيات .

كنت في عز انفعالي .. ما هذا الذي أراه والذي اسمعه ؟

فجأة أصبحت أنا وأبي وأخي جلوسا وجها لوجه أمام الملك فاروق .. نعيش معا لحظات روحانية لن تتكرر إلا في العمر مرة .. تحت مظلة القرآن الكريم .. في شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدي للناس ورحمة .

والغريب أنني ساعتها .. كنت سعيدا بوجودي مع ملك البلاد في مكان واحد هو قصر عابدين العامر ـ هكذا كانوا يطلقون عليه أيامها ـ وكان بالفعل عامرا تزينه عناقيد النور.. بل هو بالفعل كان في هذه الليلة من ليالي الأربعينيات من القرن الماضي .. قطعة من النور.. في قلب القاهرة الساحرة .. وقد كانت القاهرة أيامها ساحرة فعلا اسم علي مسمي .. وهي الآن ساحرة ولكن اسم فقط دون مسمي !

رحت اتأمل الملك وهو مطرق الرأس منصتا في أدب ووقار إلي كلام الله .. ولعلع ليلتها مولانا الشيخ مصطفي إسماعيل وراح يناطح السحاب بجلجلة صوته يطلع وينزل ويجمع الآيات في نفس واحد .. كأنه بلبل مغرد وحده وسط جنة هو وحده الطائر المغرد علي أغصانها .. وجاءت جوقة الكرم الملكي تحمل علي صوان صفراء ـ عرفت فيما بعد أنها صوان ذهبية ـ أكوابا من الكركرديه والعناب والتمر هندي الساقع .. شربنا وحمدنا الله ..  وشرب كل من كان في الصيوان الملوكي .. وطافت علينا اباريق من ماء النيل العذب .. وليس زجاجات المياه المعدنية التي لا نعرف من أي بئر أو أي مستنقع جاءوا بمائها ، والتي ندفع ثمنها من دمنا وعرقنا .. ونحن في بلاد النيل العظيم !

بعدها طاف علينا خدم القصر بجلابيبهم البيضاء والأحزمة الخضراء علي خصورهم ، والطرابيش الحمراء فوق رؤوسهم .. بصواني ياميش رمضان .. ومن بعدها أباريق للقهوة العربي الخضراء ذات الرائحة النفاذة ..

وأذكر أنني تجرأت وطلبت من النادل أي الجرسون باللغة العربية ـ ان يمنحني فنجانا من القهوة العربية الخضراء .. ومجرد أن تذوقته في فمي .. نبذته وتركته سقط علي الأرض .

واسقط في يدي.. وقبل أن انحني أنا وأخي صلاح لنرفع من سقط علي السجاجيد الشرازي الحمراء .. سارع ثلة من خدم القصر جمعوا ما سقط ودون كلمة واحدة .. ونحن نسمع آيات القرآن الحكيم في ليلة رمضانية في قصر عابدين العامر مع الملك فاروق الأول ملك مصر والسودان .

بعد أن قرا مولانا الشيخ مصطفي إسماعيل سورة يوسف عليه السلام .. التي أعاد فيها وزاد .. قام الملك مسلما بيديه رافعا إياها لكل الحاضرين .. وخرج في هدوء .. وصعد سلم القصر أمامنا .. واختفي داخله .

عندما عدنا بالقطار إلي القناطر الخيرية وقلت لأمي : مش احنا شفنا الليلة دي الملك فاروق .. ، قالت لنا ساخرة : هو أبوكم قالكم تقولولي كدة لما ترجعوا من مصر !

قلت لها : والله العظيم شفنا الملك فاروق وشربنا معاه كركديه وقرفة وقهوة ..
قالت ساخرة : وكمان شربتم مع الملك كركديه وقرفة! بطل كدب ياواد إنت وهو .. وشوفوا حنتسحر إيه !

كانت أياما .. ولكنها بحق أيام في القلب .

كلمات عاشت :

 " الصوم ليس صوما عن الطعام والشراب فقط.. ولكنه صوم عن خطايا اللسان وخطايا القلب " ( الإمام الليث ) .

 

الصفحة السابقة

 

Copyright 2008 © www.faroukmisr.net