شريف الشوباشى

 

الملكة نازلى تتقلب فى قبرها

 

لأنني لا أشاهد سوي المسلسلات التاريخية في التليفزيون منذ فترة طويلة فقد اخترت خلال شهر رمضان الحالي أن أتابع مسلسلين هما‏ ( الجماعة‏ ) ،  و‏( ‏ملكة في المنفي‏ ) .

وبالنسبة للأول فإنه يكفيني اسم وحيد حامد لأطمئن إلي جدية العمل الفني ومقاربته للواقع التاريخي ، وقد نجح بالفعل هو وكل العاملين بالمسلسل في رسم صورة أمينة وواقعية لأحوال مصر الآن , وتغلغل فكر الإخوان المسلمين بها والخلفيات التاريخية التي مهدت لهذه الأوضاع .

أما مسلسل ( ملكة في المنفي ) الذي يروي حياة الملكة نازلي فقد أخفق تماما في إعادة بعث روح ذلك العصر , وظهرت الأسرة المالكة وكأنها واحدة من عائلات الأغنياء الجدد الذين نشاهدهم في هذه الأيام .

كنت أتمني أن يبذل القائمون علي هذا المسلسل جهدا أكبر لدراسة الحقبة التاريخية التي يتعرضون لها ، ولا يكفي أن يركب التليفزيون الموضة الرائجة وهي الحديث عن الأسرة المالكة في مصر .

وبداية فإن اختيار شخصية الملكة نازلي لتكون موضوع المسلسل هو اختيار موفق ، فحياة هذه الملكة تحمل كل عناصر التراجيديا بالمعني الإغريقي لهذا التعبير ، فحياتها مأساوية وشخصيتها شخصية درامية تحركها الأقدار , مع أنها تتصور أنها تسيطر علي مقدراتها وتسيرها إلي حيث تريد .

ولا شك أن الممثلة القديرة نادية الجندي جسدت الشخصية بأسلوب مقنع ، لكن هذا لا يكفي ، فالمسلسل تشوبه حتي الآن سمات الاستهتار والتواكل وعدم الدقة والجدية وغياب الحرفية , وكلها أخلاقيات أصبحت تهيمن علي الناس في هذا الزمن ، فهو يشتمل علي ثغرات وأخطاء فادحة تصدم عين كل من له إلمام ولو محدودا بهذه الحقبة التاريخية ، وإذا كانوا يقولون إن الشيطان يكمن في التفصيلات فإن الأعمال الفنية تستقي طعمها ومصداقيتها من التفصيلات .

ومن أكثر ما أثارني في المسلسل شخصية الملك فؤاد ، فقد كان يبدو وكأنه أقرب إلي صاحب ملهي ليلي منه إلي ملك أكبر دولة في الشرق الأوسط , والذي كان يطمح في أن يكون خليفة المسلمين بعد إلغاء الخلافة في اسطنبول .

ومشهد اغتصاب الملكة نازلي في ليلة دخلتها يعتبر إهانة لتاريخ مصر وتشويها مسيئا لهذا التاريخ ، ولا أدري من أين أتي المخرج بهذه الفكرة السخيفة ، لا شك أن الملك فؤاد كان رجلا قاسيا لكن ما رأيناه في المسلسل هو انعكاس لخيال مريض نابع من حياة الناس في عصرنا الحالي ، وأتمني أن يفهم من يتصدون للأعمال الفنية التاريخية أن الملوك والرؤساء لا يصيحون ولا يصرخون ولا تعلو أصواتهم ، لا في مصر ولا في غيرها .

وعندما سئلت الاميرة فريال خلال حوار تليفزيوني عن والدها الملك فاروق أجابت بالحرف: ( أنا عمري في حياتي ما سمعت أبويا بيزعق ) .

وبالمناسبة فقد سئلت كيف كانت تنادي الملك فاستهجنت السؤال وقالت : كنت أناديه ( بابا ) بطبيعة الحال ، أما كلمة ( ببا ) و ( مما ) بتشديد الباء والميم الثانية في كل كلمة والتي سمعناها في المسلسل علي لسان الأمراء والأميرات فهي من عادات أبناء الأغنياء الجدد في هذه الأيام .

وأما الملابس والديكورات فهي كارثة فنية بكل معاني الكلمة ، مع أن الموضوع ليس صعبا ، فكان يكفي علي مهندس الديكور ومصمم الأزياء إلقاء نظرة ولو سريعة علي صور القصور وصور أبناء الأسرة المالكة قبل الثورة وما أكثرها ، ولو فعلا ذلك لما شاهدنا المناظر المؤذية التي رأيناها .

وربما كان لمهندس الديكور بعض العذر نتيجة لضعف الإمكانات ، أما الملابس فلا أجد أي تبرير لما رأيناه سوي الجهل والاستهار .

فموضة الملابس الضيقة لم تظهر قبل الخمسينيات ، أما أن نري سيقان الملكة نازلي وبعض الأميرات وهن يجلسن فهذا بعيد كل البعد عن الواقع ، كانت الملابس فضفاضة وتصل إلي تحت الركبة بكثير .

لكن قمة الكوميديا السوداء كانت عندما ظهرت الملكة نازلي في الثلاثينيات من القرن الماضي وهي ترتدي بنطلونا ( محزقا ) ، فالبنطلون لم يكن له وجود أساسا في ذلك العصر .

كما ضحكت كثيرا عندما سمعت الملكة نازلي تقول أكثر من مرة: ( أنا اخدت مهديء وبقيت أحسن ) ، وذلك في الثلاثينيات من القرن العشرين في أيام زواج الأميرة فوزية من محمد رضا بهلوي .

فالمهدئات لم تكن معروفة علي الإطلاق في ذلك العصر بمفهومها الحالي وباستخداماتها الحديثة .

لقد أخطأ القائمون علي هذا المسلسل في العصر وخلطوا بين الأزمنة لدرجة أنني كنت أتوقع في كل لحظة أن أري الملكة نازلي في أحد المشاهد تتحدث في الموبايل أو تجلس أمام الكمبيوتر لتبعث برسائل عن طريق الفيس بوك ! .

ومن فضائح المسلسل شخصية ( السير مايلز لامبسون ) ولا أتحدث عن الشكل حيث كان معروفا أن المندوب السامي الذي أصبح السفير البريطاني كان رجلا ضخم الجثة وطويل القامة ، لكني أتحدث عن أسلوبه في الكلام ، فهو ينطق الانجليزية كطالب في الثانوية العامة بإحدي مدارس اللغة العربية يدرس الانجليزية كلغة ثانية ، والتضجين الذي سمعناه يؤذي آذان كل من لديه ولو فكرة بسيطة عن اللغة الانجليزية .

ومن المضحكات أيضا أن ينادي السير مايلز لامبسون بلقب السير لامبسون ، فلقب سير علي عكس لقب لورد ، يكون دائما مع الاسم الأول وبالتالي فهو ( سير مايلز ) وليس ( سير لامبسون ) ، وقد يتصور البعض أن هذه تفصيلات لن يلاحظها أحد ، لكن الواقع أنها تفقد العمل الفني مصداقيته حتي لو لم يدركها سوي واحد في المائة من المشاهدين .

كذلك هناك مواقف تتناقض مع الوقائع المعروفة ( فالمذكرات الموثقة تؤكد أنه عندما توفي الملك فؤاد عام 1936 كان الذي نقل الخبر للأمير فاروق في لندن هو أحمد حسنين , وكان فاروق يتدرب علي ركوب الخيل ، وعندما استمع للخبر لم ينبس بكلمة واستدار بحصانه وأخذ يجري به بأقصي سرعة .

أما في المسلسل فقد أمسكت الملكة نازلي بالتليفون وقالت لفاروق باللغة الفرنسية : ( انت الملك ) ، وهي طريقة غريبة لإعلان مثل هذا الخبر .

ولا تتسع مساحة هذا المقال لكشف التناقضات والمضحكات بالمسلسل ومنها حوارات لا معقولة لا تأخذ في الاعتبار العلاقات التي كانت سائدة في الطبقة الحاكمة أو في الأسر المصرية آنذاك .

وأتخيل وأنا أجلس أمام شاشة التليفزيون لمتابعة المسلسل أن الملكة نازلي تتقلب في قبرها اعتراضا عليه .

 

 

تاريخ العدد : 25/8/2010

 

 

الصفحة السابقة

 

Copyright 2008 © www.faroukmisr.net