(4)

وبدأت رحله البحث عن عروس ملائمة ، وتحدثت مع أصدقائي ومعارفى ولم أشترط أن تكون الفتاة أرستقراطية يكفى أن تكون مسلمة متدينة من بيت صالح ، وتوقعت إن يستغرق البحث وقتا طويلا فلم يكن الأمر سهلا ، فالملكة القادمة يجب إن تكون صغيرة السن غير محاطة بالأصدقاء النفعيين الذين قد يستغلون مكانتها للانتفاع والترقى ، وألا يكون لها اى دور سياسي بالطبع ، أما عائلتها فيتحتم أن تكون  فوق الشبهات منعا لمزيد من الشائعات المفروضة أصلا على ملوك الشرق !! .

وفى أحد الأيام عرض على صديقي أحمد نجيب باشا ، جواهرجي البلاط ، صورة لفتاة جملة فى السادسة عشرة من عمرها ، وكانت لناريمان ، فتأملتها وأعجبت بوجهها فلها عينان تفيضان بالحيوية وفم يعكس روح المرح ، فأخبرني نجيب أنها من أسرة متدينة وان والدها محمد صادق يشغل منصب وكيل وزارة ، ثم انطلق يبحث الأمر وبعد أيام ، أخبرني أن والد الفتاة حريص على زواج ابنته من الشخص المناسب ، ومن ثم فقد رفض خطابا عديدين ولكنه سمح لشاب يدعى زكى هاشم بزيارة الفتاة في بيتها وكانت المرة الأولى التي أسمع فيها اسمه فسألت عنه وعلمت أنه سياسي ينتمي للجناح اليساري المتطرف ، وطبقا لمعاييرنا الاجتماعية فقد كان من المفترض ألا يظل دون زواج حتى هذا العمر!! (ثلاثين عاما تقريبا) . 

فسألت نجيب : هل الفتاة معجبة به ؟؟

فقال : لقد زارها فى منزلها ست مرات وهو الخطيب الوحيد الذي وافق عليه والدها!! ، وللقارئ الاوروبى أوضح هذه الملحوظة الهامة ففي مجتمعاتنا الشرقية يتم إعداد الفتيات اللاتى ينتسبن لعائلات محترمة إعدادأ تامأ للزواج عندما يبلغن السابعة عشرة وغير مسموح لفتيات العائلات بالتنزه لمشاهدة عروض الأفلام والمسرحيات أو التسوق أيضا ، أملأ فى أن يصادفن الشاب الملائم .. ولكن غالبأ ما يقدم الأب على تقديم معاونته لابنته الصغيرة قليلة الخبرة لمساعدتها فى اختيار الزوج المناسب ، وهكذا وطبقا لعاداتنا فلا يستطيع اى شخص ولو كان  ملك مصر التودد لفتاة وزيارتها دون وجود والدها ، من هنا بدأت صعوبة ترتيب لقائى بها دون أن أجرح مشاعرها إذا صرفت النظر عن استكمال مشروع الخطة .

ولكن الجواهرجي نجح فى الاتصال بوالدها وتم الترئيب بينهما على أن تحضر مع والدها إلى المعرض فى شارع عبد الخالق ثروت بحجة شراء بعض الحلي ، على ان يبدو الأمر كما لو كانت المقابلة بالصدفة ، وكنت أتردد بالفعل على معرضه من أن لأخر لشراء بعض العملات النادرة والتحف الفنية !! ، وتحدد يوم اللقاء ودخلت ناريمان المعرض مع والدها ، وأثناء حديثها تهادى إلى سمعي صوتها الدافئ الودود ، فأدركت أن الصورة الفوتوغرافية لم تكشف شيئا من سحرها!! ثم أومأت برأسى لنحيب الجواهرجي فقال لصادق : يوجد فى مكتبي بعض المعروضات الأخرى المتميزة فهل تودان رؤيتها!!

فارتسمت ابتسامة الارتياح على وجه والدها فقد كان ينتظر هذه الدعوة فى قلق ثم تتبعتهما ، إلى  مكتب نجيب  كما لو كان الأمر مصادفة ، تلك هى حقيقة لقائى الأول بها ولم يكن بصحبتها زكى هاشم لشراء خاتم الخطوبه كما ذكرت الشائعات ..

 ولو فعل فإنه يكون قد ارتكب حماقة مخالفة للسلوك القويم ، لأن كل لقاءات التودد يجب أن تتم فى منزل الفتاة وليس مسموحا للفتاة بالخروج بصحبة رجل دون أن يوقع والدها عقد زواجها!! .

 فى البداية كانت خجولأ وتبادلنا كلمات قليلة ولكن سرعان ما تألفنا ووجدت أننا أتبادل الحوار كما لو كنا أصدقاء قدامى .. فأعجبت بها وطلبت من نجيب معرفة انطباعاتها تجاهي ، فأبلغنى أنها سعيدة للغاية وأنها تحتفظ بألبوم يضم صوري الفوتوغرافية وأنها تستطيع رسم صورتي من ذاكرتها .. وهكذا أمضيت فى مشروع زواجي ، وبدأت أتردد على منزلها فى ضاحية مصر الجديدة .. كانت لا تزال طالبة فى مدرسة الأميرة فريال وسرعان ما عرفت مصر كلها اننى أحبها وسأتزوجها فى الوقت الذي كانت تجرى فيه واحدة من أكثر الانتخابات أهمية فى تاريخنا .

وأثناء التحقيقات التي أجريت مع العاملين بالقصر وأشياء أخرى كان الهدف منها تشويه سمعة الملك ، وهكذا وجد زكى هاشم فرصته التي كان يبحث عنها بدأب فطلب تعيينه سفيرا ثمنا لصمته وإلا فإنه سيؤيد الشائعات التي قالت إنه كان على وشك الارتباط بناريمان وهو الآن محطم القلب لأن الملك خطف منه عروسه .

تهديدات زكي هاشم :

فانزعجت بشدة وتوجهت لمنزل ناريمان ، وكانت لديها قدرة هائلة على امتصاص قلقي وقلت لها : لن أرضخ لهذا الابتزاز وليفعل ما يريد أن رجلا يتصف بهذه الأخلاقيات ليس جديرا أن يكون سفيرا لبلادنا!! .

فهزت رأسها بالموافقة وقالت فى هدوء : عليك أن تفعل ما تراه ملائما ، فأنت اكثر خبرة ودراية منى !! ومنذ تلك اللحظة تأكدت أن ناريمان تملك من القوة ما يجعلها تخرج سالمة من المشكلات ، وهكذا تجاوزنا هذه الشائعة ، وبدأنا الإعداد للخطوة التالية ، فقررت بعد موافقة أبيها إرسالها إلى روما لمدة عام لكي تتعلم كل قواعد البروتوكول الملكي وتتدرب على حياة القصور المعقدة ، فبدأت بدراسة اللغة الفرنسية وهى لغة البلاط والدوائر الدبلوماسية ، إضافة إلى أصول المحادثة ، ودراسة عامة عن الموسيقى والفنون ، وكان  امتحانا عسيرا لفتاة صغيرة من الضروري أن تتقن أشياء كثيرة فى مدة قصيرة !! ، وبعد مرور أشهر قليلة بدأت تقارير سفيري فى روما والذي ادعينا أنها ابنة أخته تبشر بالارتياح حتى اننى تشككت فى مضمونها ، فلم أصدق فى البداية أن فتاة صفيره عديمة الخبرة من الممكن أن تعمل بهذا الجد والجهد وتتقدم فى دراسات صعبة ، ولكنى سعدت حين اكتشفت  أن التقارير صحيحة وأنها كانت تعمل أكر من 12ساعة يوميا لكي تؤهل نفسها لحياتها الجديدة .

وخلال سبعة شهور فقط كانت تتقن الفرنسية وأصول الاتيكيت ومعظم المناهج المتقدمة آنذاك .. وهكذا أنجزت مهمتها فى فترة وجيزة وأعلنا خطبتنا فى الحادي عشر من فبراير (تاريخ ميلادي) .. لكنها كانت عودة بائسة لها فقد أحدثت تهديدات زكى هاشم ضررا بالغا ساهم فى تحقيق النصر الساحق لأعدائي السياسيين وأكاذيبهم .. لقد عانيت الكثير منهم ولكن عندما حانت لحظة الاختبار أبحرت ناريمان معي لتشاركني حياتي فى المنفى وهكذا كان النصر حليفي فى النهاية .

فعلى الرغم من اننى كنت محاطا طيلة حياتي بعشرات الرجال ، إلا اننى كنت أشعر دائما بالوحدة ، وكانت ناريمان هى أول إنسان استطاع أن يخترق هذا الحاجز النفسي ، فمعظم الناس لا يدركون حقيقة أن الرجل الذي يستقر على رأسه تاج ويقف أمامهم خلف هذه الأبهة الملكية هو أيضا إنسان .

ثروتي تعادل الناتج القومي  :

أفاض أعدائي فى الحديث عن ثروتي المزعومة وكان ، هدفهم يتسق مع نصيحة جوبلز ، وزير دعاية هتلر لمحاربة الخصوم السياسيين ، فالكذبة إذا ترددت مرارا وتكرارا فإن الجميع سيسلم فى النهاية أنها حقيقة ، وهم يذكرونني بقصة الرجل البرىء الذي وقف امام القاضى فى المحكمة مدافعا عن نفسه .! ، فنظر إليه القاضى مستنكرا لابد وأنك فعلت شيئا وإلا لما وجدت هنا ! ! ، هذا هو موقفي ألآن ، فهم يدعون اننى أخفيت ثروتي الضخمة بعيدا عن عيونهم علما بأنني لم أوجد خارج مصر بمفردي أبدأ ، فجميع تحركاتي كانت مرصودة من قبل عشرات الصحفيين ومئات العيون فى كل البلاد التى زرتها ، وحكام مصر اليوم يملكون جميع المستندات والسجلات الخاصة بى ومعظم أصدقائي ومن كانوا موضع ثقتي هم الآن فى السجن ويمكنهم الاستعلام عن رصيدي وممتلكاتى فى البنوك الدولية فى اى بلد!! ، والحقيقة أن أحمد خشبة ، وهوا أحد المسئولين اللذين تم تعيينهما وصيين على ممتلكاتى ، أقر بعد مرور ثلاثة أشهر من البحث والاستجواب أنه لم يظهر اى  دليل أو خيط أو مستند أو ورقه يوميات كتبت في عجالة أو شهادة انتزعت  من صديق عن طريق التعذيب تدل علي تلك الثروة المزعومة ، وكان أقصي ما استطاعوا التوصل إليه ادعاء إن بولي لديه معلومات مؤكده عن ثروتي ، فقد كان يلازمني أينما ذهبت ، وبالفعل أجاب بولي عن تساؤلاتهم لكنه لم يستطيع مساعدتهم في هذا الصدد .

وهكذا وجدت صحف الإثأره ضالتها فى الترويج لهذه الشائعات المضحكة ، قدر البعض ثروتي بمليونين من الجنيهات المهربة بعيدا!! ووصفت بعض الصحف هذه الخبيئة بثلاثين مليون جنيها ، وبعض الصحف الأكثر جنوحا ضاعفت هذا المبلغ مائة مرة فقدرته بثلاثمائة مليون جنيه إسترليني ، وهو مبلغ يعادل الرصيد القومي لأمة ناجحة اقتصاديا!! ، ومن المفارقات اننى لم أجد تقريرين صحفيين متشابهين لكنهم يدعون جميعا أن معلوماتهم مستقاة من مصدر عليم !! ، أما لماذا يجهدون أنفسهم فى الترويج لمثل هذه الشائعات فالأسباب واضحة إذ يمكنهم خلال عامين أو ثلاثة إلقاء اللوم بالمسئولية عن الأموال التى ستفقد مستقبلا على ملك المنفى لقد حاول المتمردون نقل الملكية من أبنى إلى الأمير محمد عبد المنعم لكنه تردد فى خوض تجربة سياسية مجهولة معهم !! .

ولهذه الأسباب اتبعوا خطة تجويعي ، فقرروا منع المخصصات الملكية عن مجلس الوصاية على العرش ، فانهار فى غضون أسابيع قليلة ثم واتتهم فكرة ملهمة فادعوا اننى هربت أموالا كثيرة من مصر تكفيني دون الحاجة للمساعدة !! ، فقطعوا الأموال عنى وعن أبنى ، وبناء على هذه الفكرة الحمقاء قاموا بتجميد حساباتي البنكية والاستيلاء على الكثير من الأراضي وممتلكاتي الخاصة ، وكانوا يهدفون فى النهاية إلى معاناتي حتى يخيم شبح الفقر على حياتي فتضطر زوجتي وأبنى إلى العودة لمصر .

 وأنا بالطبع لن أرضخ لهذا التهديد حتى لو اضطررت أن أعمل (قمسيونجى) كما عمل ملوك كثيرين،  وسأعتبر هذا العمل أكثر احتراما وشرفا من تسليم طفلي للمتمردين مقابل منحة مالية .. لقد أخذوا جميع الأراضي والمملكات وفى نفس الوقت يشكون من كثرة ديوني وعجزهم عن سدادها!! ، وهنا تكمن الغرابة والدهشة خاصة بعد استيلائهم على أموالى .. فلو اننى كنت أخطط بالفعل لتهريب أموالى خارج مصر لكنت قد أخذت مجوعة الطوابع التى قدرت بثلاثة ملايين جنيه استرلينى ، إضافة إلى مجموعة العملات الذهبية التى تركتها فى قصر القبة ، والتي شاهدها الصحفيون كاملة فى دواليب القصر والتى لا تقدر بثمن لقيمتها التاريخية ، ولعلها كانت من أثمن ما يمكن حمله ويثقل ثمنه ، فكان يمكنني وضعها فى صناديق الكابينة ، لكننا لم نخطط كما ذكرت ، ولم نحضر أيضا كل مجوهرات ناريمان ، وقيل لي إن إحدى أساور زوجتي ترتديها صديقة شابة لفتحي رضوان ، ويبدوا  أنه لا يؤمن بالأفكار الشيوعية ولا يشترك فى عمليات السطو إلا إذا كانت تتعلق بالجميلات اللاتى لا يتجاوزن السابعة عشر!! ، ويعد حسابي فى أحد بنوك نيويورك هو حسابى البنكي الوحيد ، وقد استخدمته فى أيام أسعد من هذه الأيام لكي أشتري مجموعة من الطوابع والعملات ، فكنت حريصا دائما على الاحتفاظ برصيد فى نيويورك تسهيلا للتعاملات البنكية فى حالة الشراء والبيع .

أكذوبة تسييح الذهب  :

وأخيرا قيل إنني قمت بتسييح كل هدايا زواجي وصنعت منها سبائك لا تقل قيمتها عن مليوني جنيه وهو أمر محال ، وهذا افتراء ومحض خيال فاكثر الهدايا كانت من عائلتي وأثمنها كان طقم شاي قيمته لا تتعدى بضعة آلاف من الجنيهات ولا يمكن إذابته وتسبيحه ذهبا ثم سبائك !! وبعد أن أبحرت مع عائلتي وقف نجيب ورجاله ، مشدوهين وأعتقد أن ألأمر استلزم أسبوعا كاملا لكي يستوعبوا الموقف ككل وأهميته التاريخية ، فهم أشبه بمجموعة من الأفراد أقدمت على تحطيم محل للمجوهرات فلم يخرج أحد لمطاردتهم وإبعادهم ..

 بالأمس كان نجيب مواطنا عاديا ، إما اليوم فهو فوق القانون ولا يستطيع احد محكماته في مصر ، ولو استطاع إعادة تشكيل البلاد وتخطيطها دون ثرثرة فكنت لن ابخل عليه بثنائي وإعجابي ، لكنه سمح لرجاله باللغو والثرثرة لتبرير أفعالهم إمام العالم ليس عن طريق العمل الجاد الدءوب خلال عشرة أعوام قادمة مثلا ، ولكن خلال أكثر الطرق يسرا وهكذا تم تشويه سمعتي بالكامل ولم يكن الأمر شاقا بالنسبة لهم ، فقد مهد الشيوعيين والصهاينة الطريق أمامهم واستغرق الأمر بضع سنين ، فلو أن جميع الفتيات الصغيرات والراقصات والممثلات اللاتى قيل إنني مارست معهن الحب اجتمعن معا لما استطاع ، جراح واحد أن يعطى له حقنة فيتامين واحدة بمعدل حقنة كل خمس دقائق دون أن يسقط من الإعياء!! ، إن اى زوج يتحتم عليه العمل الشاق المضني لأكثر من عشرين عاما لكي يحظى بقبلة على خده ووسام من الملك أما زوجته فما عليها إلا الذهاب إلى تلك الأشجار القريبة من القصر لكي تعود متفاخرة بما منحها الملك إياه !! ، إن الانسان حين يعيش تحت أشجار التفاح بصفة دائمة فغالبا ما يفتقد الرغبة فى تناوله ، فالمحرومون من الجنس هم الذين يجدون الإثارة فى هذه القصص الصبيانية الشرهة لكل ما هو متاح لملك من ملوك الشرق .. ، ويا لها من لحظات تاريخية فارقة تلك التى تبدأ بالسير فى أروقة القصور الملكية ولمس معروضات الملك المبعد فحين حدث هذا فى روسيا قتلت العائلة ألمالكة أكملها ، لذلك فالعائلة المالكة المصرية أكثر  حظا وعلى الرغم من أن أبنى لا يزال ملكا فإن المتمردين لن يقاوموا إغراء الفرجة والطواف داخل القصور الملكية .

قبل الانقلاب لم تطأ قدم اى رجل من رجال نجيب أيا من قصوري ، ولم يستقبل البلاط الملكي إلا القليلين منهم الذين منحوا أوسمة عسكرية ، وقد علمت مؤخرا وأضحكني ذلك ، أنهم يحاولون الآن إضافة وسام جديد خاص بمعركة رأس التين !! ، وأنا أعترف اننى كنت سأستمتع كثيرا بمشاهدة قادة الإخوان المسلمين وهم يتجولون فى قصري يجذبون الأدراج ويحدقون فى الدواليب والأطباق وقمصان الملك النظيفة كسيدات عجائز فى رحلة سياحية لشركة كوك .

  أما القصور ذاتها فالأسرة المالكة لا تملك رجل كرسي فيها ولا لمسة طلاء ، فكل الأعمال الخاصة بالصيانة يقوم بها مكتب الأشغال ، كما هو الحال فى البيت الأبيض وقصر باكنجهام ، وهى قصور شرقية ثرية بزخارفها تزخر بكنوز فنية نادرة ، فكل غرفة تزدحم باللوحات الزيتية والتماثيل البرونزية المهداة من بعض العائلات المالكة فى أوروبا والتي يرجع تاريخها لعدة قرون ، بعضها يوناني والآخر من فينيسيا ومن أوريا ، وهى بلاد قديمة غربي ايطاليا ، والعديد من القطع الأخرى التى كانت ترد إلينا من بعض المتاحف ، وبالرغم من هذا الثراء الفني المتنوع إلا أن المتمردين جمعوا عشرين لوحة عارية من غرف قصر القبة لأنها محرمة فى نظر المتعصبين منهم ، فالأخوان المسلمون يبدون اشمئزازهم حيال تلك الأعمال والطامة الكبرى إذا انقضوا علن الحكم فى بلد ما فعلى الفور سيسارعون بإغلاق كل المسارح وصالات الرقص ، ولن يسمحوا لأي شخص بمشاهدة اى فيلم إذا كان أقل من 21عامأ ، على أن يكون الفيلم تعليميا يتم انتقاؤه بواسطة الدولة !!  فهم يصفون الملاهي العامة بأنها أكثر شرا من احتلال البلاد بواسطة قوات أجنبية ، هذه ليست كلماتي ولكنها كلمات حسن الهضيبى المرشد العام للإخوان المسلمين !! ، وقد يتطور الأمر فيمنعون نشر صور الفتيات فى المجلات وان كان معظمهم متدينين طيبين لا يضمرون شرا إلا أنهم سمحوا للمتطرفين بالسيطرة على جماعتهم . فالممسكون بزمام أمورهم الآن يملكون عقول عجائز وقلوبا متحجرة لا تعوق التسامح كما لو كانوا أعضاء فى محاكم التفتيش .. فهم يحطمون اى تمثال عار ، ومن ائؤكد أنهم صدموا حين شهدوا صور عذارى النيل التى صممها فنان أبى الإيطالي ألمفضل (فيروتشى) فى قاعة الموسيقى بقصر رأس التين !! .

 (5)  

ومن حسن حظ الاخوان المسلمين أنهم وجدوا كل الدعم والعون من فتحي رضوان ، الذي أدرك بذكائه أنه يتحتم عليه أن يفعل المزيد فى قصر القبة قبل أن يشاهده الصحفيون فجمع بعض الروايات والصحف القديمة التى أحضروها من غرف الخدم ووضعوها بجوار سريري .. ، أما تحت وسادتى  حيث كنت أضع دائما القرآن الكريم وهى عادة عائلية ، أمرهم فتحي رضوان بوضع مسدس وألبوم يضم صورا فوتوغرافية ، لنساء شبه عاريات وهكذا كان من المفترض وفقا لإدعاءاتهم ، إنني أنام فوق هذه التشكيلة العجيبة كل ليلة ، ثم قاموا بوضع رابطة عنق مرسوم عليها فتيات ، عاريات وهى متوافرة ومرتديها تلاميذ الكليات الأمريكية ومن السهل شراؤها بقروش قليلة من شوارع القاهرة !! علما بأنني كنت املك عددا كبيرا من  رابطات العنق فمعظمها كانت ملكا لوالدي ، إضافة إلى أن كل مدارس الحرف اليدوية فى مصر ومصحات الناقهين كانت ترسل لنا هذه الأشياء ( ورابطات عنق ، جوارب ، شيلان )  تعبيرا عن محبتهم لنا !! .

أما فى حجرة نوم زوجتي فتعمدوا وضع رواية غير مهذبة بجوار سريرها ، وهى عشيق الليدى تشارترلى وشاهدها الصحفيون مفتوحة على احر صفحاتها إباحية !! والنكبة أن معظم الناس لم يشاهدوا دوائر البلاط الملكي ، وهم لا يعرفون أن غرفة نوم الملك ليست مكانا خاصا ، فمن المألوف أن يوجد بعض المسئولين عن الغرفة وعن الخدمات وبعض موظفي البلاد والخدمة ، وهم يتناوبون الخدمة ويتحركون فى كافة أنحاء القص .. ولهذا السبب لم يدرك رجال نجيب القادمون من ضواحي المدينة أن الملك لا يضع ممتلكاته الخاصة جدا فى غرفة نومه ، لكنه يخصص لها مكانا خاصا وكان موقعه فى البدروم حيث اعتدت استقبال ضيوفي الحميمين الذين أتحرر أمامهم من ملابسي الرسمية، وكنت أقضى ساعات قليلة أنعم فيها ببعض الحرية .

وفى نفس المكان كنت أحتفظ بمجموعاتي الخاصة من الطوابع والعملات وهى الهواية التى كانت تنتشلنى من متاعبي مع زوجتي الأولى ومن مشاكل أمي وحبيبها ومجادلاتي مع السفير البريطاني وخلافاتي المتصاعدة مع الوفديين !!! .

 فقد كنت أحد هواة جمع الطوابع المشهورين ولدى مجموعة فريدة من العملات والأوراق النقدية التى لا نظير لها فى العالم ، وأكثرها قيمة ورقة بنكنوت من فئة  10 ألاف جنيه استرلينى لا يوجد منها سوي ورقتان فى العالم الأولى فى مجموعة ونستون تشرشل والثانية فى مجموعة الملك جورج السادس !! إضافة إلى عملاتي الذهبية فكنت أملكك أيضا عينات حقيقية من إنتاج معامل تنقية الذهب والتي تعود إلى بعض الحضارات القديمة حتى يومنا هذا ، إضافة إلى كل الأشكال المعروفة لدمغة الذهب .

 أما مجموعتي المتكاملة من الكوتشينة فيعود بعضها إلى العهود الأولى للعبة ولدى مجموعة من أوراق اللعب التى استخدمها ملوك فرنسا وأباطرة الصين وأول أوراق تستخدم فى أول كازينو فى مونت كارلو ، ولكنهم التقطوا ورقة تحمل صورة امرأة عارية ، وتضم تحفى الفريدة زهرا للطاولة مرصعا بالمجوهرات يعود تاريخه للبلاط الملكي فى فرنسا فما أن شاهدوا عجلة الروليت الحديثة بجوار الزهر حتى أطلقوا عليها غرفة فاروق للقمار .

مال وجمال وقمار :

أنا لا أنكر اننى كنت ألعب القمار فى نادي السيارات ، ولكنى لم ألعب أبدا فى اى قصر من القصور حيث تحول الرسميات دون ذلك ، ولكن من المؤكد أنه لا يوجد ما يسمى بغرفة القمار بقصر القبة فقد لعبت القمار مرارا وتكرارا ، فأنا لست قديسا ولكنى أتعامل مع الأشياء بطبيعية شأن جميع الناس ، فأستمتع بطعامي الشهي وبالصحبة المرحة خاصة إذا أخذنا فى الاعتبار أن دخلي السنوي يتجاوز المائة ألف جنيه استرلينى !! .

فهل يوجد رجل يمتلك مثل هذا الدخل يفيض حيوية وشبابا ولا يستمتع بحياته ! ،  وبعيدا عن التخمينات والشائعات فأنا أعترف اننى كنت أقامر على موائد القمار ولكنى لم أقامر بما لا أستطيع دفعه ، إضافة إلى اننى ربحت أكثر مما خسرت فى أغلب الأحيان ولكنى لم اشترك في رهان علي كرة قدم مثلا أو اليانصيب  أو الروليت وهي ( لعبة صبيانية ) ، إما الماكينة التي وجدوها ي غرفة نومي واش اعو أنها جهاز اخترعه فاروق لمشاهده الصور الفاضحة وهو في فراشه  فهي اله سينمائية المانيه يستخدمها هواه التصوير لعمل المونتاج فنحن من العائلات التي كانت تهوي التصوير السينمائي للتسجيل المناسبات الكبرى ، ولم أتمالك نفسي من الضحك أيضا حينما أشاروا إلي مجموعه العطور وخلاصة النباتات المقطرة والتي يعود بعضها إلي العصور الوسطى ، فالنقطة الواحدة من خلاصة الورد الحقيقي تقدر بخمسين جنيها إسترلينيا ويعد جرام العنبر اغلي سعرا من الذهب في نظر هاوي العطور ، وكنت امتلك منها خلاص من فرنسا وايطاليا وبعضها يعود لأكثر من مائتي عام ، إما التعليق الذي أطلقه مرشد الإخوان علي هذه الثروة أنها شراب المحبة الخاص بفاروق فلنطيح بها جميعا ، أنها كنوز انصحهم بالحفاظ عليها والتخطيط كما كنت انوي لإنشاء متحف يضمها ليثري كنوزنا المصرية ، كنت دائما أمل إن يكون هذا المتحف تخليدا لذكري أبي ، وليكن المتحف ألان باسم نجيب فذلك أفضل من السماح للجهلاء بتحطيم تلك الثروة المتحفية التي لا تقدر بثمن بدعوة الشيوعية .

أعلم تماما أن أبى لم يكن يحظى بالشعبية التى تجعله محبوبا ، لكنني أحببته حبا جما ، والآن وأنا أسترجع شريط ذكرياتي أؤكد أنه لم يكن واحدا من أعظم الرجال الذين عرفتهم مصر علي الإطلاق ولكنه كان يمكن أن يصبح زعيما وسياسيا بارعأ فى اى أمة من الأمم .

بعد مرور شهر من تاريخ نزولي عن العرش حطم الشيوعيون الذين يقودهم فتحي رضوان تمثالا نصفيا بالحجم الطبيعي لأبى فى محطة السكة الحديد تخليد لذكراه فى تحديث أنظمة السكة الحديدية فى مصر ، ومن المؤسف أن حفنة قليلة من الغوغاء قاموا بتحطيمه بصورة مهينة حتى أنهم حطموا شواربه وبصقوا عليه !! ؟ ، وأنا أتسال قي دهشة لماذا يخربون ويحطمون تمثال والدي بينما النازيون والحلفاء لم يحطم أحدهما عن عمد النصب التذكارية فني بلدان أعدائهم ؟؟ ، فإذا كانوا غير راغبين فى وجود تلك التماثيل  فليدعونها فى متحف أو يعيدونها إلينا لنعتني بها وعزائي أن أبي سيتبوأ مكانته الرفيعة فى سجلات التاريخ المضيئة !! ، والآن يقذفني أعدائي بأبشع التهم افتراء ويدعون اننى أعرض بناتي للانتهاكات الأخلاقية فالتقطوا صورة لإحدى بناتي فى حمام سباحة جريس فليدز فى كابري وهى ترتدي مايوه عاديا ترتدي اى فتاة صغيرة فى مثل عمرها وتعمدت بعض الصور إظهار رواد هذا المنتجع الصيفي وأشارت العناوين إلى اننى أجبرت أطفالي على أن يستعرضن أنفسهن فى ملابس غير لائقة أمام النزلاء لكي أكسب ود الرأسماليين الذين يلعبون القمار وينغمسون فى الملذات فى هذا ´المكان ! .

 فلم يقنعهم إبعادي ولكنهم يهدفون لتحطيم الواجهة الملكية وبعثرة أنقاضها لكي أصبح رجلا بدون أسرة أو أصدقاء ، فأي ألم أقصى على رجل منفيا مثلي لا يمتلك الآن إلا عائلته فهي مملكتي الوحيدة وسعادتي وملاذي الأخير.. والذي يحزنني أن البعض سينظر لهذه الأكاذيب بعين الاعتبار فى مجتمعاتنا الشرقية !!

أربع غرف بدلا من أربعه قصور :

كم كان يسعدني أن أرى أطفالي سعداء فى طفولتهم وأن أشاركهم هذه السعادة ولو بالقدر الضئيل الذي كانت تسمح به مسئولياتي ، لكن حياتهم اختلفت الآن فلن يعدن أبناء ملك حاكم .. فمن الضروري إذن  تكون حياتهم مرحة سعيدة فى المنفى أيضا و هذا ما حاولت أن أفعله تعويضا لهن عن حياتهن فى مصر حيث كانت لديهن غرفهن المملوءة بإلإلعاب  فى كل قصر من القصور الأربعة ..

وقد حرصت منذ صغرهن على تعليمهن ركوب الخيل على يد "لا فارج " أمهر فارس فى فرنسا حيث تملك كل منهن عربة تجرها الحياد .. ينطلقن بها فى ممرات القصور ويتجولن فى حدائقنا الغناء التى كانت تقفز فيها الغزلان فى نعومة ورشاقة ويحمل النسيم العليل الأريج الفواح والضجيج المحبب فمن النادر أن تكون سماؤنا الزرقاء الصافية خالية من أصوات كل الطيور المغردة .. كان لكل أميرة أيضا كلبها الخاص وتحرص كل منهن على إطعامه بنفسها تماما كما كنت أفعل مع كلبي ´´لورينوا´ فالكلب لا يتعلق إلا بمن يعتني به فقط ! .

ومنذ لحظة وصولنا إلى الفندق فى كابري أصبحنا سجناء ، ولكن بناتي تقبلن الموقف بشجاعة وصبر فكنا نستجلب ظلام الليل بإرادتنا .. فنضئ غرفنا ونغلق الشيش والنوافذ بينما الشمس ساطعة بالخارج !! ونجلس معا نداعب بعضنا البعض بالالغاز والأحاجي ، فبناتي مغرمات بها ويشعرن بالفخر والسرور إذا اكتشفن لغزا جديدا لا يمكنني الإجابة عنه !! وكانت إقامتنا فى طابق كامل مكون من ست وعشرين غرفة لمجموعتي المكونة من سبعة وعشرين فردا ، وكنا فى حاجة إلى غرفتين لحرس الأمن الإيطالي الذي أمدتنا به الحكومة الإيطالية الكريمة لحمايتنا .. فيما يتعلق بإقامتي قررت الاستعانة بأربع غرف حولت غرفة منها للسكرتارية واستقبال الزائرين والغرفة الثانية للمعيشة والثالثة لزوجتي والرابعة للطعام العائلي !! وقد بدأت الآن في منح فوزية و فريال بعض الشلنات أسبوعيا ليبدأن الادخار مرة أخرى . . فأنا أشعر أن هذه الحياة الجديدة فرصة عظيمة لبناتي لكي يتعلمن متعة الادخار الفعلي والانتظار حتى يستطعن شراء ما يردن من أشياء الآن تتمنى فادية شراء كاميرا صغيره لا يزيد ثمنها عن الجنيهات ولكنى طلبت منها أن تنتظر قليلا فقد تحصل عليها كهدية فى عيد ميلادها أو تدخر لتشتريها .. وهكذا ستقدر هذه الكاميرا تقديرا خاصا لأنها تطلعت لاقتنائها وانتظرت وقتا طويلا لشرائها .

الطفولة الملكية ...عسكرية :

كان أبى رجلا حازما متشددا لم ينس يومأ اننى سأصبح ملكا فشأت الأقدار أن تكون طفولتي منعزلة وان لم تتجاوز الإطار العام لأسلوب التنشئة المكرر فى جميع الأسر الملكية !! ففي الوقت الذي يبدأ فيه الأطفال العاميون فى الاستقلال ذاتيا فإن الطفل الملكي ينعطف فى مسار أخر يتسم بالصرامة والمشقة التى قد تتجاوز الحياة فى اى مؤسسة عسكرية ، وبالرغم من كل القيود فربما تنسمت طفولة سعيدة لولا وجود مربيتي الإنجليزية تايلور ، فقد كنت محبا لشقيقاتي وكن وديعات مثل بناتي ولا أذكر أننا تشاجرنا فى طفولتنا ولو مرة واحدة على الإطلاق بينما كانت مربيتي الأيرلندية – ومازلت احتفظ للأيرلنديين بمكانة خاصة إجلالا لها - هى أول امرأة أوروبية تترك أثرا واضحا فى حياتي فقد ملأت طفولتي بذكريات ناعمة وغمرتني بفيض هائل من حنانها وسحرتني بأغانيها الجميلة الهادئة التى كانت تشدو بها فى سعادة بالغة لإدخال السرور والمرح إلى قلبي الصغير وهى إنسانة رقيقة صبورة ومازالت مربية أبنى أيضا . . أما مربيتي تايلور واه من تايلور ، ترى ماذا كان يضيرها لو تركت كل الذكريات السعيدة فى نفسي أيضا لكنها لم تفعل فكانت متشددة .

لم أتجاوز السادسة عشرة حين أرسلني أبى إلي بريطانيا للدراسة فى أكاديمية وول وتش العسكرية ، حيث قيل آنذاك إنني كنت متفوقا فى الرياضيات ولم يكن ذلك صحيحا فقد كنت طالب  فشلا زريعا ، أما العلوم فكانت هي المادة التى تستهوينى فكنت أصطحب كتبي بعد انتهاء الدراسة لأستمتع بدراستها فى المنزل حتى اننى تقدمت على زملائي فى تلك المادة التى مازلت مفتونا بها .

وحينما قدمت إلى بريطانيا خلال تلك الآونة كنت أنفق معظم مصروفي فى البحث عن الكتب القديمة !! وقد تواردت شائعة امتلاكي لسيارة حمراء سبور كنت أروع بها سكان وول وتش ، ولم يكن ذلك صحيحا أيضا . . ليتنى كنت أمتلك مثل تلك العربة آنذاك فلم أمتلك إلا دراجة ومن ثم فقد اعتدت الذهاب إلى لندن مرتين أسبوعيا بصحبة سائق لوري .

 لقد كانت أيامأ رائعة فى حياتي استطعت فيها الاختلاط بالزملاء على قدم المساواة ، ومازلت أحتفظ بذكريات خاصة ربما نسيها زملائي الذين تزدحم حياتهم وتثرى بصداقات عديدة غير رسمية ! ! ، وخلال وجودي فى برمطانيا تلقيت دعوة غذاء من جورج الخامس ملك بريطانيا ، وفى قصر باكنجهام التقيت بادوارد أمير ويلز آنذاك فاقتربنا كثيرا وأصبحنا صديقين حميمين ، فسألني ماذا أفعل فى أوقات فراغي ؟  فقلت إنني أهوى التجول في المكتبات التى تبيع الكتب القديمة ، وكان من هواة مشاهدة كرة القدم فكنا نذهب معا لمشاهدتها وكان شغوفا أيضا مثلي بجمع العبارات الإنجليزية العامية فأخبرته بالعبارات العامية الحديثة التى كان يستخدمها أفراد الجيش الإنجليزي!! واستشعرت أن الأقدار ربطت بيننا بطريقة لافتة فقد تعارفنا بينما كان كلانا وليا للعهد فى بلده ثم تقابلنا وكلانا ملك ، وتقابلنا أخيرا وكنت ملكا دونه .. لكننا لم نلتق بعد كملكين مخلوعين وأعتقد أنه سيطلق تعليقا لاذعا إذا التقينا مؤخرا !! .

كانت حياة خشنة ناعمة رائعة فى أن واحد ، وللأسف الشديد لم تدم طويلا ففي أبريل عام 1936 توفى أبى فتم استدعائي إلى مصر .. كنت فى السادسة عشرة من عمري وكان من الصعب أن ألقى شبابي خلفي ، لكنه الواقع المؤلم الذي فرضته الظروف شئت أم أبيت ومنذ ذلك اليوم بدأت أتحمل مسئوليات الرجولة الرشيدة !! .

عندما ودعني دوق " كنت "  فى محطة فبكتوريا لم يخالجنى أدنى شك فى اننى خلال سنوات قليلة سأتمكن من تحقيق طموحات أبى فى الارتفاع بمكانة مصر بين الأمم وأنني يمكنني مساعدة كل المحبطين والفقراء وتخفيف همومهم ، ويالها من أضغاث أحلام شابة جامحة فلم يكن الأمر بهذه السهولة أبدأ ، فكل رجل يعتقد أنه من السهل أن يصبح سياسيا ناجحا إذا سنحت له الفرصة بل إن كل من يستطيع العزف على آلة الكمان مثلا أو يدعي أن لديه قدرة على تنظيم عملية تحية العلم أو أصلاح الأحذية كانوا يشعرون جميعا بالاقتناع التام بأن مشكلات العالم ستنتهي إذا أصبح كل منهم رئيسا للوزراء فكل سياسي يقول : ( دع لي الأمر برمته فالرفاق السابقون كانوا أوغادا ، ولكنني سأتدارك الموقف وأعيد تصحيح  الأمور فورا !! ) وعلى الفور يمنح السلطة والوقت ليس بغرض محاسبته ولكن لكي يتسنى له تثبيت أقدامه فى موقعه حتى لايزحزحه أحد طوال حياته !!

انتقال الوزارة صيفا إلي الإسكندرية :

فالعرش سلاح مشهر فى أيدي السياسيين فى مصر حيث يستطيع السياسيون المحترفون إدارة حملاتهم عن طريق مخاطبة العواطف الجماهيرية التى تتأرجح مع كلمات الخطباء المفوهين نظرا لتدنى المستوى التعليمي عند العامة ، أما مخاطبة العقول فلا مجال لها فى طلق الحملات ، لقد سعى أبى جاهدا طوال حياته لإيقاف خطر هذه الأمية فشرع فى بناء المدارس وإنشاء الجامعات وإقامة المراكز الثقافية إيمانا منه أنه يقود شعبا عظيما ، سيصل حتما إلى مرحلة النضج السياسي والاجتماعي ، وهكذا حاولت أنا أيضا السير على نهجه ولكن بعض السياسيين كانوا

يعتقدون أن تحقيق مأربهم - الصالحة والطالحة - من الممكن أن يتحقق عن طريق التعلق بالعرش فكانوا يعزفون على وتر حب الأمة المتأصل تجاه العائلة المالكة ، بينما سار البعض الآخر عكس هذا التيار الملكي ، فكانوا يثيرون الشعب بعباراتهم الثائرة :

( انظروا فالملك يمللك الثروات الهائلة وأنتم فقراء صفر اليدين ) ، وفاتهم أن يقولوا لهم أيضا إن ستالين كان يمتلك سيارة بينما رجل الشارع فى روسيا يسير على قدميه !! ولكن التضليل السياسي أمر لا يعنيهم مادامت روسيا توجههم وتدعمهم وتدفعهم للتوغل فى أعماق الحياة المصرية !! .

أذكر أن النحاس جاءني فى أحد أيام الصيف الملتهبة يعرض على تكيف قصر عابدين لكي يصبح مقرأ دائما للحكومة بدلا من انتقال الوزارة إلى الإسكندرية صيفا  ، إضافة إلى أهمية ظهور القصر بصورة لائقة أمام الدبلوماسيين الأجانب ، فكان تنفيذ الاقتراح يعنى أن قصر عابدين هو القصر الوحيد المكيف فى الشرق الأوسط وطمأنني النحاس وقال لي : دع جلالتك الأمر لي فلن تكون التكاليف باهظة ! ! .

لكنى لم أدع الأمر واكتشفت أن المشروع سيتكلف مليونا ومائتي جنيه إسترلينيا ، وبمجرد الانتهاء من تنفيذه سيقولون للشعب : انظروا كيف ينفق الملك الملايين لينعم بالهواء البارد وأنتم تتصببون عرقا وفقرا ، فرفضت الاقتراح وقضيت على هذه الفكرة برمتها وتركت القصر بدون تكييف وهو لا يزال صندوقا من الرخام الساخن ! ! .

 (6)

 لم تكن السياسه هي عبئي الوحيد ففي السادسه عشره ايضا وجدت نفسي ملكا لاكثر من عشرين مليون مواطن واصبحت عميدا لعائلتي ومسئولا عن شقيقاتي وجميع افراد عائلتي باكملها ، وبدات المشكله الاولي قبل ان تجف دموع الحزن فقد ترك ابي ثروه ماليه لم تكن بالضخامه التي صورها السياسيون لكنها كانت لا تقل ايضا عن مليون جنيه بالاضافه الي مزرعه شاسعه وممتلكات اخري يجب تقسيمها ، ولكن الاميره فوقيه - وهي اخت غير شقيقه ، طالبت ببيع نصيبها من التركه الامر الذي يعني اننا سنضطر لعرض جزء كبير من ارث العائله والاراضي الملكيه للبيع فلم اقبل هذه الاساءه لصورتنا امام الشعب ، واصدرت تعليماتي للمثمنون بتقييم نصيب الاميره فوقيه فقدر المبلغ باكثر من نصف مليون جنيه فجمعت انا واخواتي كل اموالنا وحصلنا علي قرض من البنك يسدد علي عشر سنوات بضمان اراضينا ، وهكذا دفعنا لها الثمن كاملا‏ ، ولكن الشائعات انتشرت علي الفور بانني قمت بالاحتيال علي ميراثها‏ !!‏ .

لم يمض عام علي وفاه والدي حتي بدات والدتي في تلويث سمعتنا من خلال علاقتها باحد كبار المسئولين في القصر ، كنت شابا صغيرا حاولت احياء ذكري والدي فذهبت اليها ورجوتها ان تحفظ ذكراه نقيه دون ان تدنسها ، فبكت ووعدتني وعودا كثيره لكنها لم تف بها وبعد ان قضيت ليله باكيه تضرعت فيها الي الله بالدعاء والصلاه توجهت اليها في الحرملك واخذت معي مسدسا فوجدتها مع ذلك الرجل وهددتهما بانهما اذا لم ينهيا هذه العلاقه فان احدهما سيموت حتما لانهما يدنسان ذكري والدي ، وان الله سيغفر لي هذه الفعله لان ما يفعلانه حراما يتعارض مع شريعتنا المقدسه‏ !!‏ ، فارتعدا امامي وشعرت بخوفهما وبالفعل التزمت والدتي لمده طويله ، ولكن في عام‏1940‏ بدات القصه الغراميه تشتعل من جديد ، وبينما انا افكر واستجمع قوتي للوفاء بقسمي ، كانت مشيئه الله قد نفذت فقتل الرجل اثر حادث تصادم ، حيث كان يقود سيارته فاعترضه لوري تابع للجيش البريطاني فشكرت الله وحمدته ، فقد رحمني من تنفيذ مهمه رهيبه ، ولكن في نفس العام سافرت والدتي وشقيقتي فائقه وفتحيه معها الي امريكا فتعرفت برجل غير مسلم ووافقت علي زواجه من صغري بناتها ، وحزنت حزنا شديدا فاثناء فتره حكمي منعت حالات زواج مماثله لبعض افراد العائله ممن يرغبون في الزواج من اشخاص لا يدينون بالاسلام ، وكنت احب فتحيه عندما كنا صغارا فلماذا تفعل بنا امنا كل هذا‏ !!‏ ومازلت حزينا حتي الان من اجلها ‏!!‏ .

القطه التعيسه :

والان اتطرق لاكثر الموضوعات جدلا اثناء فتره حكمي واعني به حياتي الخاصه كملك يعيش في بلد يعج بالاضطرابات والمشاكل ، الامر الذي ادي الي معاناه كل من حولي شان القطه التعيسه الحظ التي تئن عند قدم صاحبها المنشغل عنها دائما ، فمهما تبلغ درجه اعتنائه بها فلابد ان هناك اوقاتا حرجه ينحيها فيها جانبا في قسوه تفرضها الظروف من حوله ، تلك كانت مشكله زواجي الاول من فريده لذلك صممت الا يتكرر الامر مع ناريمان‏ .‏

فقد خططت لقضاء شهر عسل يستغرق اسابيع عديده ، ولم اخدع نفسي بامكانيه الهروب من مسئوليات الدوله ولكنني فكرت في الموضوع كاجازه ترفيهيه وقد يتعجب البعض حين يعلم انها كانت اجازتي الثانيه علي مدار سته عشر عاما ، ويبدو الامر غريبا ؟ لرجل وصفته الصحافه مرارا بانه فتي مدلل ولكنها الحقيقه اضافه الي اننا يمكننا الظهور معا في اوروبا وذلك شيء رائع بالنسبه لنا فعاداتنا لا تسمح بظهور الملك والملكه امام الناس الا في المناسبات الرسميه ، وهما عابسان مقطبا الجبين ‏!!‏ وكل ما كتب عن لعبي للقمار في كازينوهات فرنسا وايطاليا يغطي فتره زمنيه لا تزيد علي ثلاثه اشهر في حياتي كلها بما فيها شهر العسل ‏!!‏ فبعد احتفالات زفافنا المرهقه والتي استمرت ثلاثه ايام انغمست في عملي مره ثانيه ولم تكن لناريمان بالطبع اي مهام رسميه فمنحتها حريه زياره والدتها واستقبال اصدقائها في الحرملك بقصر القبه ‏.

وكنت اعلم ان غرف الحرملك المهيبه الضخمه توحي دائما بالوحده والعزله وطول الانتظار وفي احدي الليالي عقب انصرافي من عملي منهكا في الواحده صباحا ، تلقيت رساله منها ترجوني فيها زيارتها في الحرملك ، كنت اشعر بالاعياء ولكني وجدتها متالقه مشرقه ، فقمنا بصنع القهوه بانفسنا واستمتعنا بتلك الخلوه واصبحنا ننتظر تلك الساعه يوميا فكانت تستريح الصباح كله واحيانا بعد الظهر لتبدو بكامل لياقتها في نهايه اليوم ، وكانت تشرف علي قوائم الطعام في القصر وتهوي ايضا تجربه الاصناف الجديده فاي طباخ مهما تكن مهارته فلابد ان تصبح قوائم طعامه ممله نتيجه لتكرارها‏ ،‏ وهكذا اضفت ناريمان بعض النسائم الرقيقه علي نمط حياتي واردت اهداءها شهر عسل يكون ذكري دائمه لكلانا ، حيث يمكننا التحدث وتبادل النكات واسترجاع تلك الذكريات التي قد لا تتكرر مره اخري ‏!‏ فصحبتني حاشيتي ،
مراعاه لاصدقائنا وجيراننا في الشرق الاوسط ، فكل حاكم يسافر الي الخارج لابد ان يحيط نفسه بعدد كبير من المرافقين ولكي اكون علي صله دائمه باحوال البلاد ، ولكن اعداءنا حاولوا الاساءه لنا ولم تعيهم الحيله‏ !!‏ حاولوا ذلك من خلال تصوير ناريمان بالمايوه او الشورت ، اما الاسرائييون فقد حاولوا نشر افتراءات اخري فاشاعوا انني امتلك معملا لتقطير الخمور في القدس وهي اكذوبه كبري فاي ملك لا يمكن ان يغامر بسمعته ويعطي بيده اعداءه السلاح الذي يصوبونه ضده مهما تبلغ ارباح تلك الخمور ‏!!‏ .

ولكنها للاسف الشديد كانت دعايه ناجحه قامت باستيفاء الغرض منها حيث قاموا بترتيب وضع بعض زجاجات الخمور علي مائدتي واضطررت ان اغادر لوزان بسبب تلك الواقعه التي اعتذرت عنها الحكومه السويسريه‏

اشباهي من المحتالين :

نصح رجال البوليس في كابري احد الهواه بحلاقه شاربه وكان واحدا ضمن العشرات الذين كان يسعدهم وجود شبه بينهم وبيني واقنعوه ان الحراسه المتوفره لا تكفل حمايته بشكل كاف وانه يعرض حياته للخطر‏ !!‏ ولم تكن المره الاولي ففي ملفات الامن بقصر راس التين كنا نحتفظ باسماء وصور فوتوغرافيه لما لا يقل عن سته عشر رجلا يشبهونني تمام الشبه بعضهم من ايطاليا ومن فرنسا ومن دول مختلفه في الشرق الاوسط‏ ،‏ وقد تم القاء القبض عليهم جميعا لتعمدهم انتحال شخصيتي وتقليد مظهري الخارجي وسلوكي فاحتال بعضهم علي بعض الجواهرجيه واصحاب الفنادق وغرروا ببعض السيدات !!‏ .

وعلي النقيض من هولاء المحتالين يتعرض اشباهي الناضجين الذين لا ينتحلون شخصيتي لبعض المتاعب واشهرهم المخرج السينمائي الايطالي اتانزاتي فعندما كان يسلم الجوائز للفائزات في مسابقه ملكه جمال اوربا ظهرت صورته في الصحف مصحوبه باسمي‏"‏ الملك فاروق " يقدم الجائزه لملكه جمال اوربا ، علي الرغم من انني لم اشارك في هذا الاحتفال فحاول " اتانزاني "‏ الاتصال بتلك الصحف وتوضيح الموقف ولكن مجله واحده فقط هي التي نشرت هذا التنويه والان تنشر مجله المانيه اسبوعيه سلسله مقالات دنيئه تحت عنوان‏ "‏ نساء فاروق‏ "‏ فتظهر صوره قائد اوركسترا عديم الضمير يتنكر في هيئتي محاطا بالفتيات والنساء في محاوله لتشويه صورتي ‏!!‏ .

لماذا اكره الخمر ؟‏ :

لم يمثل الشراب اي اغراء بالنسبه لي في اي وقت من الاوقات ، وانا اعتقد ان شاربي الخمر يمكن تقسيمهم الي فئتين الاولي تشرب لانها تريد ان تنسي وتهرب من مشاكلها ، والفئه الثانيه تشرب لكي تضحك وتحاول الامساك بتلابيب لحظات بهجتها المنفلته ، لكنني لم اشعر بمثل هذه المشاعر فانا اعتقد انه كلما كان ذهن الانسان صافيا واعيا فلن يتعذر عليه الشعور بالمرح اضافه الي انني لا اريد ان انسي‏ ، فشرب الخمر من وجهه نظري اشبه ما يكون بحضور عرض مسرحي حي يتابعه مشاهد اصم مغلق العينين‏ ،‏ وقد اعتدت مداعبه ضيوفي وسؤالهم عن الاسباب التي تجعلهم يقبلون علي شرب الخمر ، وكنت استمتع باجاباتهم فبعضهم يشرب لكي يهدهد نفسه للنوم وكنت ادهش ولا اتخيل منطقهم وهل يطلبون النوم حقا ام الهروب‏ ؟ .

ولكنني اجزم ان ابتعادي عن الخمر لا يرتبط فقط بتحريم شرابها في الاسلام ولكن حتي لو كانت حلالا لوددت معاقرتها بمحض ارادتي تماما‏ .

اما لعبي للقمار في كازينوهات اوروبا فقط ارتبط بلعبه بسيطه فكنت اعد ناريمان انني اذا ربحت الليله مثلا فسوف اقدم لها الهديه التي تختارها ، وهكذا اشتريت لها بعض قطع الفراء الثمينه وجوهره تاريخيه نادره ، واضفنا بعض التوابل الخاصه الي شهر العسل ولكنني كنت اخسر ايضا في احوال كثيره ، ولكن من كلمات اللوم والمبالغه التي كتبت في هذا الصدد اذكر اثناء زيارتي لامير موناكو وصلتني رساله من زوجتي تخبرني فيها انها تشعر ببعض الالام فعدت مسرعا وبالفعل سمعت اخبارا ساره وتاكدنا انها حامل ولكن الصحافه شأنها دائما افسدت تلك اللحظه الجميله حيث اختلقت قصه وهميه ذكرت فيها انني ذهبت الي كازينوهات القمار بمونت كارلو ، فغضبت زوجتي ولزمت فراشها‏ .‏

مصر اصبحت كالهرم المقلوب :

تمتاز البيئه الاجتماعيه في مصر بخصوصيه شديده ، فهي مثل اهراماتها قاعدتها العريضه من الفقراء والفلاحين الاميين وتتربع علي قمتها حفنه من الراسماليين الاثرياء ، انها اللبنه الاولي لمعظم الامم عندما كان العالم يتحسس طريقه حضاريا وسياسيا وهي ولا شك بنيه اقطاعيه لكنها نجحت في اختبار الزمن لانها كانت تتناسب مع احوال مجتمعنا .

ولكن ماذا بعد ان تم قلب الهرم راسا علي عقب حتي اصبحت قاعدته المدببه ومركز توازنه تكاد تكون قمه مكسوره مهتزه من السهل تارجحها مع اي هزه سياسيه ، حتي ياتي اليوم الذي تتطلع اليه روسيا فتسحق ذرات الهرم رمالا ناعمه تتدحرج فوقها الدبابات الروسيه وهي في طريقها للغرب ، فقد علمت موخرا ان عمال مصانع صباغي البيضا في كفر الدوار قاموا بتنظيم مظاهره كبري عندما تم القبض علي رئيسهم‏ "‏ الياس اندراوس " فهو رجل هادئ متحضر يحظي بمحبه عماليه ربما كانت جريمته الكبري انه صديقي‏ ،‏ فقام العمال بتحطيم الماكينات وتخريب المصانع احتجاجا علي اعتقاله فتم القاء القبض عليهم واعدام مصطفي خميس ـ‏20‏ عاما ـ وارسال صورته اثناء تنفيذ حكم الاعدام الي كل المصانع والورش في مصر لكي توضع في لوحه الاعلانات ، لقد اطلق سراح اندراوس باشا لكن زنزانته لن تخلو من شبح اخر يسكنها طالما وجد في مصر رجال اشداء متيقظو الضمائر .

هتلر واغراق الدلتا :

لم ابد تعاطفي مع هتلر والالمان كما ادعي البريطانيون ، لكن كانت تربطنا صداقه حرص عليها هتلر لاسباب واضحه فانا لم اويده لكني اعترضت ايضا علي قبول الروس كحلفاء وانتقدت قمع المانيا وفقا لمبدا الاستسلام غير المشروط وهو الامر الذي اسفر عن وقوع بعض دول اوروبا في براثن روسيا‏ .‏

في عام‏1942‏ بدا الالمان يحققون انتصارات متواليه ويتقدمون باتجاه صحرائنا الغربيه ، فاعتمد البريطانيون علي تنفيذ خطتهم المعروفه بسياسه الارض المحروقه في الدلتا للتصدي للزحف النازي فحشدوا المفرقعات والمواد القابله للاشتعال وكانوا يخططون بالفعل لاغراق الدلتا باكملها ، الامر الذي يعني تشريد الملايين وتدمير اراضيهم ، فكان واجبي كملك يحتم علي معارضه هذه السياسه التي كان يتزعمها سفيرهم لامبسون واعتقد ان وجوده في مصر اثناء سنوات الحرب كان امرا يدعو للرثاء نظرا لانعدام صلات الصداقه والمحبه والتفاهم بيننا ، وفي‏4‏ فبراير‏1942‏ حاصر لامبسون قصري بالدبابات حتي لا اعترض علي تعيين النحاس باشا رئيسا للوزراء ، ولم يكن معارضا لسياسه الارض المحروقه ، في الوقت الذي كانوا يخشون فيه من تعيين علي ماهر الذي كان يعارض سياستهم مثلي ، فاقتحم لامبسون والجنرال ستون ـ وكان صديقا ـ مكتبي ولم يكن الامر يحتاج الا لرصاصه واحده يطلقها احد حراسي حتي يكون قصر عابدين قد تمت تسويته بالارض طبقا لاوامر لامبسون كما علمت فيما بعد ‏.‏

ولا اعتقد ان لامبسون وستون قد ادركا حتي اليوم كم كان الموقف خطيرا خاصه انني علمت بخبر قدومهما قبل مجيئهما بنصف ساعه فاستطعت اعطاء بعض التعليمات للحرس‏ ،‏ وجاء لامبسون وبصحبته سته ضباط انتشروا علي طول الممر المؤدى الي مكتبي وفي تحد واستنكار وقف سته ضباط من حراستي في مواجهتهم ، فكان مشهدا كوميديا لانهم جميعا كانوا اصدقاء اعتادوا ان يجتمعوا في رحلات التنزه وممارسه العابهم المفضله .

اما مكتبي فكان وضعه اكثر اثاره وقلقا حيث اختبا ثلاثه من حراسي الالبان خلف ستاره مكتبي وقد وجه كل منهم مسدسه صوب لامبسون وستون اذا استخدما القوه معي وهو ما لم يحدث لكنهما وضعا امامي خيارين لا ثالث لهما اما تعيين النحاس رئيسا للوزراء او التنازل عن العرش ، فوافقت علي تعيين النحاس وقلت للسفير البريطاني ، عندما اكون مستعدا للتنازل عن العرش سافعل ذلك بما يتوافق مع مطالب شعبي لكني لن اوقع هذه الورقه المكرمشه المتسخه ـ وكانت كذلك بالفعل ـ واعلنت امامهما انني سأعين النحاس حقنا للدماء التي ستتدفق في شوارع القاهره ولكنك ستندم علي هذا العمل الي الابد ، وفي اليوم التالي استلمت مذكره من الجنرال ستون يعتذر فيها عما حدث يقول فيها ‏:‏ لعلك تدرك انني كرجل عسكري يجب ان اطيع الاوامر ، فتفهمت موقفه وتعاطفت معه لكنني كنت اعلم اكثر من لامبسون ان النحاس ـ وكان عدوي ـ ليس صديقا ايضا للبريطانيين كما كانوا يعتقدون‏ .

واقترب روميل من العلمين فلم تعترضه ايه موانع لايقافه ، فدخل النحاس باشا مكتبي ذات يوم مرتعشا مضطربا قائل ا‏:‏ سيصل روميل الي الاسكندريه في غضون ايام فيجب ان نواجه الامر بصوره واقعيه فكيف سنستقبله ؟ ،‏ هل سنقوم باعداد حفل استقبال له ام الافضل ان ارسل حرس شرف او وفدا مفوضا لاستقبال موكبه كما ينبغي .

ولم يظهر علي وجهي اي تعبير وقلت له ‏:‏ فلننتظر ما سيحدث فاذا قدم روميل الي الاسكندريه فليكن ولكن لا داعي لان نسبق الاحداث ، كنت في قراره نفسي ادرك ان بريطانيا اعتادت ان تختبر صداقه النحاس لها خلال ازماتها الحرجه‏ ، اما الجزء الثاني من سياسه الارض المحروقه فكان يعتمد علي ابعادي عن مصر بالقوه الي الخرطوم قبل ان تصل جيوش روميل وقررت المقاومه اذا وضع المخطط موضع التنفيذ ولم تكن تكهناتي جامحه فقد استبعد البريطانيون عددا من الملوك وروساء الدول اثناء الحرب لكي يتسني لهم استئناف القتال فاستبعدوا ملك اليونان لكنه كان محظوظا واستطاع ان يعود الي عرشه بالقوه بعد انتهاء الحرب ولم يتمكن ملوك يوغوسلافيا وهولندا وبلجيكا من العوده الي بلادهم مره اخري .

بعد انتهاء الحرب تقدمت الخارجيه البريطانيه باقتراح يعربون فيه عن رغبتهم في الاعتذار الدبلوماسي وتركوا لي حريه اختيار الطريقه او الوسام الذي يروق لي ، لقد اهانني لامبسون امام اصدقائي في الجيش البريطاني لذا فالترضيه يجب ان تكون امامهم ايضا‏ ، فقبلوا اقتراحي وتم تعييني لواء فخريا في الجيش البريطاني وكانت لافته مهذبه محت تلك الواقعه من نفسي‏ .‏

 (7)

بعد أن أبحرت المحروسة طلبت فرقتي السودانية ألتي كانت تولي حراستي في رحلة السفر والعودة إلى بلادهم وبمجرد ابتعاد السفينة عن المياه الإقليمية قاموا جميعا بإلقاء أسلحتهم في البحر وأقسموا أن بنادقهم التي كانت تحمى الملك يجب ألا تستخدم ضده أتمنى ألا تنشب أي خلافات بين مصر والسودان على مياه النيل فالمواطن الأوربي لا يعلم أن مصر قد تتأثر بشدة إذا نجح أي عدو في غزو السودان وأغلق مياه النيل أو أقام سدا على ضفافه ، من هنا كان حرصنا الدائم على التأخى والتعاون ألدائم علي التآخي والتعاون الدائم وكأنهما كيان امبراطورى واحد آمل ألا يعرضنا السياسيون إلى أي مخاطر مع السودان من أجل البقاء أطول فترة ممكنة في السلطة .

لم اسرق الآثار  :

وأخيرا أعتقد أنني يجب أن أتطرق لموضوعين يستحقان عناء الشرح ، الأول يتعلق بسرقة الآثار من المتاحف المصرية والثاني بحقائق الأسلحة الفاسدة .

بداية فقد انكر الأب دريتون مدير المتحف المصري أنني أخذت أي آثار من المتحف ، ولكنه صرح بأنني كنت أقوم من آن لآخر بإهداء ألمتحف بعض القطع من مجموعاتي الشخصية  ، ولكن حدث بعد اكتشاف أللورد كار نافون وهوارد كارتر لمقبرة توت عنخ أمون وبعد آن قاما بتسجيل بيانات المقبرة وكنوزها أن

توفى كارتر دون أن تسجل بعض القطع فاتصلت زوجته لتخبرني أنها اكتشفت العديد من قطع اثأر بين ممتئكات كارتر الخاصة وكانت السيدة في غاية القلق وسألتني ماذا تفعل ؟ فلم يساورنى أي شك في الرجل الذي كرس حياته كلها في البحث والتنقيب واستبعدت أي هواجس فلم يكن ماديا وأكنه عالم أثرى ، على أن هذا التفسير يمكن شرحه وتبريره في حياته  ، ولكن الآن وقد توفى الرجل فمن المؤكد أن سمعته ستصاب بالأذى إذا ما اكتشفت هذه الآثار في منزله ، فطلبت من زوجته إرسال هذه القطع ثم قمت بترتيب إعادة إرسالها مرة أخرى إلي المتحف على اعتبار أنها أشياء تم إغفالها في القصر ويمكن للسيدة كارتر  ولا تزال حية ، أن تؤكد هذه الواقعة وكان هذا هو أقصى ما كنت أستطيع أن أفعله وأنا ملك لكنني الآن أصبحت شخصا عاديا لذلك أردت توضيح الحقائق ، وأصل إلى أخر وأسوأ الفضائح التي نشرها عني أعدائي وأردت سردها في نهاية مذكراتي تلك الأكذوبة التي لصقت أبى زورا وبهتانا وأعنى بها قضية الأسلحة الفاسدة ، لقد بني نجيب انقلابه بأكمله تقريبا على تلك الأكذوبة تماما كما جاء هتلر إلي السلطة استنادا إلى أكذوبة الجنس الآري ، لقد فرضت علينا حرب فلسطين لكننا لم نسع لها لأننا لم نكن مستعدين لها ، فكان من المحتم علينا شراء بنادقنا وذخيرتنا بأقصى سرعة ومن أي مكان فذهبنا إلى المهربين وبارونات  تجارة الأسلحة في الشرق الأوسط ودفعنا لهم كل ما طلبوه منا ، فالمتسول لا يملك حق الاختيار ، وهذه هي إجابتي للتاريخ وفيما بعد كان من السهل تتبع الروايات والقصص المثيرة عن البنادق الفاسدة وكيف أن القنابل اليدوية كانت تنفجر قبل موعدها وقذائف المدفعية التي كانت تنحشر بماسورة المدفع  الأمر الذي أدى إلى هزيمة جيشنا أمام إسرائيل فعانينا العار والهزيمة وأقول أن تسليح الجيش ربما كان سيئا .

أحيانا كان يشعر البعض بأنهم مقدمون على الانتحار إذا طلب منهم استعمال البنادق الواردة إلينا ، وربما كانت الأسلحة رديئة بالفعل ئكنها كانت أفضل من لا شيء ، فقد يحترق المدفع الرشاش بعد إطلاق مائة طلقه لكنه على الأقل أصاب الأعداء بتلك الطلقات المستهدفة ، وأنا أعلم أن بعض القذانف قد انفجرت قبل وصولها للهدف وقتلت رجالنا ، ولكن ماذا كنا نفعل هل نواجه جيوشهم دون أسلحة ، لو كان جنودنا يملكون نصف الأسلحة والمعدات ألتي كانت لدى الإسرائيليين لطردناهم من الشرق الأوسط ،  اما ما قيل عنى وعن عصابة قصري التي أثرت عن طريق شراء  الأسلحة الفاسدة وإرسالها إئى جبهة القتال فقد فاتهم أنني كنت أمثل عصابة قصري هذه ، وقد تواجدت بالجبهة وان كنت لا أدعى أنني أقمت في الخنادق مع جنود المشاة ولكنى تواجدت شأن أي قائد في الجيش وتعقدت ظروف الحرب وكان علينا أن ننسحب  ، فيما يشبه دنكرك  الصغيرة عبر الشواطئ الإسرائيلية فمكثت أعمل لمدة خمس ليال متصلة دون نوم مع عصابة قصري الحقيرة ونجحت قواتنا في الانسحاب دون إن  نخسر قطعة واحدة وبخسارة بشرية لا تتجاوز واحد في المائة فقط من مجموع ألقوات المقاتلة  ، وأي مقاتل اشترك في حرب يعلم تماما ماذا تعنى هذه الأرقام .

فيما يتعلق بالثروات التي اكتنزها تجار السلاح ، فلم يشترك فيها مصريون ولكنها جمعت على حساب مصر وبدماء المصريين على أيدي تجار السلاح المحترفين في الشرق الأوسط وبعضهم من الصهاينة ومازالوا يتطلعون لإرسال شحنات أخرى من بيروت لتسليح الشيوعيين المتعاطفين مع المتمردين في مصر أو السودان أو أي جهة أخرى يأمل تجار السلاح في إقناعها بشن حرب ، فدماؤنا ودماء أبناننا هي مصدر نقودهم .

وهكذا دفعت ثمن صمودي في الشرق الأوسط ومحاولإتى المستمرة لكي أجعل من هذا الرجل الذي يغلى دائما مكانا أمنا لشعبي ، ربما أكون قد فشلت إلا أنني مستريح الضمير أمام الله وأعتقد لو أن شخصا أخر أكثر قسوة منى وضع في مكاني ربما حقق نجاحا أفضل ، واليوم وأنا أستعيد حياتي الخاصة للمرة الأولى اكتشفت متعتين كبيرتين لم أشعر يهما من قبل ، فالآن يمكنني البحث عن أي عمل يستهوينى ويشغلني ويعود علي عائلتي بالنفع بعيدا عن تلك الأعمال اليومية التي كانت تتعرض لوابل من النقد المصطنع من قبل بعض ألجاحدين ، وألان عرفت أيضا متعة البداية من الصفر وهى متعة أخرى لم أكتشفها من قبل ، ربما أكون قد فقدت عرشي ، لكنني حطمت قيودي .  

 

( انتهي )

 انتهت المذكرات التى قامت بنشرها جريدة الاهرام

الصفحة السابقة

 

Copyright 2008 © www.faroukmisr.net